عقب ثورة 25 يناير مباشرة، حاربت القوات المسلحة التي تسلمت السلطة من الرئيس المخلوع حسني مبارك، للحفاظ على سلطانها الاقتصادي، ما دفعها لإصدار بيانات رسمية، وعقد مؤتمرات صحافية دفاعًا عن الأنشطة الاقتصادية للجيش، التي كانت تُعتبَر في السابق من أسرار الدولة.
ففي مؤتمر صحافي عقده المجلس العسكري في 2012، كشف نائب وزير الدفاع للشؤون المالية آنذاك، اللواء أركان حرب محمد نصر؛ النقاب عن العائدات السنوية للأنشطة الاقتصادية للجيش، والتي بلغت 198 مليون دولار، وعن نسبتها في ميزانية الدولة 4.2%، دون تقديم دليل واحد آنذاك، أو الآن، عن صحة تلك المعلومات.
ووفقًا لدراسة أعدها مركز كارنيجي الأمريكي، “أصبحت القوات المسلحة المصرية المُشرِف والمُراقِب الأول على الاقتصاد المصري، حتى حينما أذعنت حكومة الإخوان المسلمين إلى العديد من المطالب الأساسية للقوات المسلحة المصرية، لم يدم الود طويلًا، إذ سقط ذلك عندما حاول (الرئيس محمد) مرسي تهميش الجيش في المشاريع الكبرى؛ مثل تطوير قناة السويس ومشروع توشكى.
تطور الاقتصاد العسكري
بنى محمد علي الجيش المصري، لكن اقتصاد القوات المسلحة بدأ مع خمسينيات القرن الماضي؛ إذ تقلد الضباط الأحرار مقاليد الحكم في عهد جمال عبدالناصر، حيث وُجِهت موارد الدولة نحو الجيش، الذي لعب مهندسوه ومقاولوه الدور الرئيس في مشاريع استصلاح الأراضي، وإقامة البنى التحتية العامة، وتوفير السلع الأساسية، والصناعة المحلية للأجهزة الاستهلاكية والإلكترونات، وكذلك إنتاج السلع الصناعية والزراعية كالفولاذ والسماد. علاوة على ذلك، تم تعيين ضباط من رتب عالية مكان مدراء المصانع المدنيين.
ثم تلفت دراسة المعهد، إلى أنه في عهد أنور السادات، تحولت الصناعات من الأسلحة والدفاع، لصناعات محلية، مع تأهيل مصانع الأسلحة التي بناها الأوروبيون قبل عقود، وفقًا لاتفاقية كامب ديفيد.
أما في عهد الرئيس المخلوع حسني مبارك، فتراجعت القوات المسلحة أكثر، لكن الجيش حافظ على لائحة طويلة من الامتيازات المالية والصناعية والتمويل الخارجي.
ومع ثورة 25 يناير، ظهر دور الجيش، وبرزت صفقاته التي كانت تتم غالبًا في السر، وظنت شركات مقاولات كبرى أنها يمكنها المنافسة، إلا أن هذا لم يحدث، وحرص الجيش على الإطاحة بمنافسية، بحسب الدراسة.
التوحش علنًا وإزاحة المنافسين
وحول النقطة الأخيرة، قال عمرو بكر، الخبير في الشؤون العسكرية، إن “القوات المسلحة تترك المجال لمنافسيها نوعًا ما، لكنها لا تتركه يكبر أبدًا”.
وأشار “بكر” في تصريح لـ”رصد” إلى أن “المنظومة الاقتصادية في الجيش، أصبح فيها أجنحة وطنية جدًا لكنها صامتة، وأخرى موغلة في التوحش تنسف منافسيها”، مضيفًا: “هل تذكرون حريق مقر عثمان أحمد عثمان في ميدان رمسيس، واتُهم الإخوان في ذلك؟ لقد كان الأمر أشبه بقرصة أُذن لشركات المقاولون العرب حتى لا تناطح القوات المسلحة في المشروعات الكبرى”.
تقول دراسة كارنيجي: “كان قادة الجيش، عمدوا في سبيل تحصين أنفسهم، إلى تنويع محفظة القوات المسلحة الاقتصادية الدولتية، عبر الحصول على تمويلٍ وتكنولوجيا من مصادر القطاع الخاص الأجنبي والمحلي، وأيضًا عبر شراكات مشتركة مع رجال الأعمال غير العسكريين والمصالح الأجنبية، عبر المنح أو مشاريع البنى التحتية كالكباري ومشاريع الصرف وتوصيل المياه”.
الجيش يحمي “ثورته” وشركاء الاستثمار
وتلفت الدراسة إلى أن “الفراغ الفوري في السلطة، غداة الإطاحة بمبارك، أدّى لترك فراغ، إلا أن القيادات في المجلس العسكري، أعطت مؤسسات الجيش الفرصة لضمان استمرار الحصانة إزاء الإشراف الحكومي على مؤسساته، وأبدى العديد من الشركات والمستثمرين الدوليين استجابة لهذه الرسالة، وباتوا متشوقّين لاسترضاء الجنرالات بأمل ممارسة نفوذ على الاقتصاد في حقبة ما بعد الثورة”.
في المقابل، ردت القوات المسلحة الجميل بتخصيص عساكر من الجيش لحماية مؤسسات المستثمرين العرب والأجانب، وحماية مقارهم بعد ثورة يناير حتى الآن.
الجيش يتحالف مع الإخوان!
كذلك ساعدت أيضًا الخطوات التي اتّخذتها قيادة القوات المسلحة لتشكيل النظام السياسي، في فترة ما بعد المجلس الأعلى للقوات المسلحة؛ الجيشَ في الحفاظ على سيطرته المؤسّسية على موارد اقتصادية رئيسة، بل وتوسيعها كذلك، إذ نجح الجيش في الحصول على ضمانات في قضايا أساسية من جانب القيادة المُنتخَبة لحزب الحرية والعدالة.
كما حاول القادة العسكريون توجيه السياسة الاقتصادية العليا في اتجاه يُفيد على نحو انتقائي عملياتهم، وانخرطوا في حماية مناورات سياسية حذقة وبارعة، هدفت إلى تهميش أو استلحاق العديد من مراكز القوى التابعة للنظام السابق.
توضح دراسة المعهد أيضًا، أن “العديد من السياسات التي مورِسَت في حقبة مابعد الثورة من جانب كلٍّ من المجلس الأعلى للقوات المسلحة، ومرسي (على غرار وقف دعم الوقود لمؤسسات الصناعية)، لم تشكِّل تهديداً يُذكَر للأنشطة الاقتصادية للجيش، لأن بنود الدعم للجيش غير منصوص عليها في التنظيمات، وبالتالي لاتتأثر بقطع الدعم”.
واستدركت: “لكن هذه التسوية المؤقّتة بين حزب الحرية والعدالة والجيش، أثبتت أنها من عمر الورود، مع أنها كانت واضحة في مروحة من المجالات: من إنهاء الحظر كأمرٍ واقعٍ على ترقية الجنود واضحي التديّن (بما في ذلك إدخال ابن أخ مرسي إلى أكاديمية تدريب عسكري في مارس 2013)، إلى الدعم الصريح للسلطة العسكرية غداة التقرير الحكومي في العام 2013، والذي أظهر بجلاء أن جنودًا ورجال شرطة ارتكبوا جرائم خطيرة خلال الثورة وماتلاها من اعتقالات”.
كما أورد الإعلام المصري بنود الصفقات المزعومة بين المجلس الأعلى للقوات المسلحة وبين حزب الحرية والعدالة، والتي شملت “خروجًا آمنًا” يوفّر حصانة لأعضاء المجلس الأعلى؛ واتفاقًا بألا يطرح حزب الحرية والعدالة مرشحًا للرئاسة لايعتبره الجيش مقبولًا، وكذا ترتيبًا يمنح الجيش السيطرة على السياسة الاقتصادية العليا، فيما هو يترك السلطان القضائي على وزارات الخدمات (وزارات التعليم والشباب والثقافة، إلخ) في يد جماعة الإخوان.
التحديات المقبلة
تشير دراسة معهد كارنيجي، إلى أن السرعة والوتيرة التي تمكَّنت بهما القوات المسلحة المصرية من إعادة بناء إمبراطوريتها الاقتصادية والسياسية في مرحلة مابعد مبارك، كانتا مدهشتَين.
وتوضح السبب: “فإلى جانب النهوض بالأنشطة الصناعية التي كانت متوقّفة، وفرض السيطرة على مشاريع بنى تحتية هائلة، أصبح انتشار القادة العسكريين كبيرًا جدًّا في أروقة الحكم. فسبعة عشر محافظاً من أصل سبعة وعشرين هم جنرالات عسكريون (تسعة عشر محافظًا عسكريًّا إذا شملنا ضابطَي شرطة من الرتبة نفسها) وسائر الحكّام المدنيين يتشاركون الحكم مع 24 لواءً في مناصب نائب المحافظ، والأمين العام، ومساعد الأمين العام”.
ومع أن هذا الأمر يُظهِر حتمًا توطيد سلطة الجيش، إلا أنه ربما يشي أيضًا بوجود شكوك ضمن قيادة القوات المسلحة المصرية، حول قدرة حكومة يقودها الجيش على الاستمرار لمدة طويلة. وفي بيئة تسودها الشكوك، تكمن الاستجابة المنطقية في فرض أكبر قدر ممكن من السيطرة الاقتصادية والسياسية للتخفيف من الخسائر في التنازع المقبل على السلطة. لكن هذه الاستراتيجية قد تنقلب عليها (وأغلب الظن أن هذا سيحدث)، فيما تتضاءل المساعدات الخليجية ويواصل النظام بذخه، كما بيّنت الدراسة.
والمحصلة؟
تقول دراسة معهد كارنيجي: “لا تترك هيمنة الجيش المصري الراهنة، التي تحظى بدعم شعبي ومساعدات خليجية، لصانعي السياسات الأميركيين وسائل مهمة تُذكَر للضغط على القاهرة في ما يتعلّق بحقوق الإنسان والإصلاح السياسي”.
لكنها تستدرك، لافتةً النظر إلى أنه “مع ذلك، لايُعَدّ تأمين تمويل إضافي لعمليات مكافحة الإرهاب خيارًا جيدًا، إلا إذا كان العنف الذي تشهده سيناء يُمارسه إرهابيون عابرون للحدود يستغلّون المنطقة مؤقّتاً لأنها مساحة غير محكومة نسبيًّا”.
ففي هذه الحال، ربما يساعد إحضار المزيد من الأسلحة والقوات فعلًا في حماية الجنود، لكن زيادة التمويل العسكري لن تحسّن الأمن الإقليمي في المدى الطويل، لأن هذه المجموعات ستنتقل إلى مساحات أقل عسكرة في الدول المجاورة. والأدلّة على أن هذه الأسلحة تُستخدَم في ممارسات العقاب الجماعي التي تُهلِك مجتمعات بأكملها في سيناء، هي مقلقة جدّاً، ولاشك في أنها ستسفر عن معارضة أعنف ضد الحكومة العسكرية.
من جهة أخرى، إذا كان العنف الذي تشهده سيناء تمارسه مجموعات لديها تظلمات مشروعة ومحدّدة تجاه الحكومة العسكرية في مصر، ويبدو أن هذه هي الحال فعلًا، فالحلّ يقتضي مفاوضات سياسية وتنازلات من جانب حكومة السيسي، وليس مزيدًا من الأسلحة. فالمطلوب إجراء مفاوضات سياسية وقيام عدالة تصالحية لضحايا النظامَين الحالي والسابق من علمانيين ومتدينين، والمزيد من المال الأميركي لن يحقّق أيًّا من ذلك.