ذرفت أوروبا دموع التماسيح على المقبرة الجماعية التي تحول إليها البحر المتوسط. تراوحت ردود الفعل ما بين اعتراف ضنين من طرف المسؤولين البريطانيين بأنهم أخطأوا في تقدير تداعيات تدخل الناتو العسكري في ليبيا إلى مطالبات بتدخل آخر جديد. قلة قليلة فقط أبدت ما يشير إلى أنها ستعامل الغرق الجماعي للمهاجرين كما ينبغي أن يعامل: أي على أنه كارثة إنسانية.
خرجت علينا الدبلوماسية الإيطالية فريدريكا موغيريني، الممثل السامي للشؤون الخارجية والسياسة الأمنية في الاتحاد الأوروبي، بخطط عسكرية مذهلة، حيث يريد مكتبها من قوات تابعة لدول الاتحاد الأوروبي أن تذهب لقتال داعش في ليبيا ولحماية الحكومة، وتقصد بها برلمان طبرق (الذي صدر عن المحكمة الدستورية قرار بحله) – – بدلاً من الحكومة المنافسة لها في طرابلس. إلا أن العقلاء في أوروبا وقفوا لهذا التوجه بالمرصاد وعارضوه مصرين أولاً على رؤية اتفاق ينجز ما بين الميليشيات المتصارعة قبل أن يتم النظر في أي مقترح لتدخل جديد أياً كان شكله.
بينما عانى رئيس الوزراء البريطاني دافيد كاميرون وهو يحاول جاهداً أن يبدو رحيماً متعاطفاً (من خلال إرسال المزيد من السفن لتجول المتوسط وتنقذ المهاجرين من الغرق) ومحافظاً في نفس الوقت (من خلال الإصرار على أن من يتم إنقاذهم لن يكون لهم حق تلقائي في اللجوء)، لم يفلح اجتماع ممثلي الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي في الاتفاق على عدد اللاجئين الذين سيمنحون حق اللجوء.
لقد خنق الخوف من الأعداد المتدفقة الاستجابة الأوروبية للتعامل مع حجم الكارثة الإنسانية، بل لقد شهدت بعض الدوائر احتفالاً غير معلن عند سماع أخبار الغرق الجماعي للمهاجرين. ولعل هاتين التغريدتين من إيطاليا تلخصان المزاج الأوروبي الكاره للغرباء: “700 ضحية … خبر سار لا يكاد يصدق!”، و”لو أن أفريقيا كلها تغرق لكان أفضل”. وفي بريطانيا وصفت الكاتبة في صحيفة الصن كاتي هوبكينز المهاجرين بأنهم “صراصير” وطالبت بإرسال سفن حربية لإغراق قواربهم.
وكما قالت كيت ألين، مديرة منظمة العفو الدولية في بريطانيا، لو أن سياحاً مستجمين هم الذين غرقوا بدل المهاجرين لكم كان رد الفعل مختلفاً.
لا يوجد حتى الآن اعتراف، ناهيك عن أن يكون هناك تحليل، بشأن المصدر الحقيقي لأكبر موجة من الهجرة تتعرض لها أي دولة من دول الاتحاد منذ ولادته. ولعل ذلك دفين في الأرقام المتوفرة لدى الاتحاد الأوروبي نفسه، ولكن ثمة تردد في الحديث عن ذلك، ولأسباب وجيهة.
إن الفوضى التي تعصف بالسواحل الشرقية والجنوبية للبحر المتوسط ناجمة عن حلفاء أوروبا بقدر ما هي ناجمة عن أعدائها. وذلك هو السبب في الأعداد المتزايدة من العرب ومن الأفارقة الذين يستقلون القوارب باتجاه أوروبا، والسبب أيضاً في الارتفاع الكبير في الأعداد بعد أربعة أعوام من انطلاق الثورات العربية.
في الواقع شهد تدفق المهاجرين انخفاضاً بعد انطلاق الربيع العربي مباشرة، ذلك الربيع الذي جاء بالأمل، وجعل الملايين من العرب يعتقدون بأنهم بصدد مستقبل أفضل. بعد الإطاحة بالقذافي مباشرة في أغسطس 2011، تراجعت الهجرة وتلاشت الضغوط الناجمة عنها أو كادت، وذلك بحسب تقرير صادر عن فرونتيكس، وكالة الحدود الأوروبية، والذي جاء فيه:
“مع سقوط نظام القذافي في أغسطس 2011 تراجعت الضغوط بسبب الهجرة بشكل كامل تقريباً، وظلت معدلات الهجرة منخفضة جداً طوال عام 2012، إلا أن السنة التي بعدها شهدت ذروة ثانية في معدلات المغادرة من ليبيا”.
لاحظ الإشارة في التقرير إلى العام 2013 وإلى عبارة “الذروة الثانية”. مضت فرونتيكس تقول:
“وفي عام 2014 وصلت معدلات اكتشاف المهاجرين إلى مستويات مذهلة، فقد وصل ما يزيد عن 170 ألف مهاجر إلى إيطاليا وحدها، وكان ذلك أكبر تدفق على بلد واحد في تاريخ الاتحاد الأوروبي. وكان كثير من المهاجرين قد انطلقوا من ليبيا، حيث لا يوجد سيادة قانون ولا الحد الأدنى من الإجراءات الشرطية التي تضمن تطبيق القانون، الأمر الذي سمح لشبكات التهريب بالازدهار والانتشار. وكان معظم المهاجرين من السوريين والإريتريين، ولكن كان من بينهم أيضاً أفارقة كثيرون جاءوا من مناطق مختلفة من بلاد ما دون الصحراء وسلكوا هذا الطريق”.
ثلث المهاجرين الذين جاءوا إلى أوروبا عبر البحر ولم يكن معهم أوراق رسمية – وكان تعدادهم 220 ألفاً – كانوا سوريين يفرون بحياتهم من الحرب الأهلية. وهذا متطابق مع أعداد طلبات اللجوء التي قدمت، حيث توثق سجلات المفوضية الأوروبية زيادة عدد طلبات اللجوء التي تقدم بها سوريون إلى أكثر من الضعف مقارنة بعام 2013، حيث وصل العدد إلى 123 ألفاً، ويشكل ما نسبته 20 بالمائة من العدد الإجمالي.
والصورة هذا العام مشابهة، فقد وصل عدد المهاجرين الذين جاءوا عبر البحر ونجحوا في الوصول إلى إيطاليا واليونان ومالطا 36390 مهاجراً حتى الان، بحسب إحصائيات صادرة عن وكالة اللاجئين التابعة للأمم المتحدة. وتفيد الإحصائيات إن عدد الذين لقوا حتفهم 1750 مهاجراً وعدد الذين مازالوا مفقودين مشابه له. ومن حيث الجنسيات، كان العدد الأكبر من سوريا، وبلغ 8865 حتى الآن، ثم يأتي من بعدهم الإريتريون (3363)، ثم الصوماليون (2908) ثم الأفغان (2371).
ولكن، كيف يصل هؤلاء إلى أوروبا؟
هناك سبع طرق يسلكها المهاجرون عبر البر والبحر وصولاً إلى تخوم الاتحاد الأوروبي. إحدى هذه الطرق، وهي الطريق عبر قلب المتوسط من ليبيا إلى مالطا وإيطاليا، شهدت أكبر زيادة في معدلات العبور، من 15900 مهاجر في عام 2012 إلى 170760 مهاجراً في العام الماضي. لا توجد لسوريا حدود برية مع ليبيا، ولذلك فإن إحدى الطرق التي يسلكها هؤلاء المهاجرون ليصلوا إلى ليبيا تمر عبر مصر.
والآن بتنا نعرف البلد الذي يعبر من خلاله المهاجرون، ونعرف السنة التي تحولت فيها القطرة إلى طوفان، ولم يكن ذلك في مطلع الربيع العربي عام 2011 وإنما بعد ذلك بعامين.
تشير الأرقام وحدها بأصابع الاتهام إلى الانقلاب العسكري الذي وقع في مصر في عام 2013 بأنه العامل الأكبر تأثيراً في انسياب الهجرة العربية اليوم.
كان للانقلاب تأثير مباشر على ما يتراوح ما بين 250 ألف و 300 ألف مهاجر سوري أجبروا على الفرار من مصر، كما كان له نفس التأثير على ليبيا ذاتها، والتي تشترك مع مصر بحدود طويلة مليئة بالثغرات. كان السوريون قد رحب بهم في مصر من قبل الرئيس محمد مرسي قبل أن يطيح به الانقلاب. فقد سمح لهم بأن يقيموا في مصر بمجرد إبراز جوازات سفرهم، وفتحت المدارس أبوابها لأطفالهم. ولكن بعد أيام معدودة من الانقلاب أصبح هؤلاء المهاجرون وقوداً لسعار نعرة مصرية قومية كارهة للغرباء ورافضة لهم، والتي اتهمتهم – بحق أو بباطل – بالارتباط بشكل أو بآخر بجماعة الإخوان المسلمين. فشنت عليهم حملات تسفير واعتقال، وبدأت المؤسسات تطرد الموظفين السوريين العاملين لديها. وادعت وزارة الخارجية المصرية أنه بنهاية عام 2014 تم تسجيل 250 ألف لاجئ سوري. ولكن، ما من شك في أن الكثيرين منهم أجبروا على الفرار.
في السادس من سبتمبر من العام الماضي، انطلق قارب من دمياط في مصر متجهاً إلى مالطا، ثم ما لبث أن ارتطم بقارب آخر بعد أن رفض المهاجرون الانتقال منه إلى قارب أصغر غير مناسب لشق عباب البحر. تقول المنظمة الدولية للهجرة نقلاً عن روايات حصلت عليها من فلسطينيين نجوا من الغرق بأن الحادثة أسفرت عن وفاة ما يقرب من 500 مهاجر جاءوا من سوريا ومن السودان ومن مصر.
التأثير المباشر الثاني للانقلاب كان على ليبيا ذاتها. فمباشرة بعد الانقلاب في يوليو 2013 جرى تحديد المنطقة الشرقية من ليبيا بالإضافة إلى قطاع غزة، وذلك خلال برنامج تلفزيوني يقدمه إعلامي مقرب من الاستخبارات العسكرية المصرية، على أنها مناطق يمكن أن تستهدف بالتدخل العسكري المصري. وصورت هذه المناطق على أنها أوكار للمتطرفين الإسلاميين تشكل خطراً على أمن مصر نفسها. استغرب المراقبون مثل هذه الادعاءات في حينه لأن أعداد الإسلاميين التكفيريين في الشرق الليبي كانت قليلة جداً في ذلك الوقت وكانوا يتخذون من درنة وليس بنغازي مقراً لهم. لم تكن داعش قد ظهرت هناك بعد ولم يكن ثمة ما يشبه “الجيش المصري الحر” أو أي شيء من هذا القبيل على الحدود الليبية مع مصر كما ادعت وسائل الإعلام الهستيرية الموالية للانقلاب في القاهرة.
ما لبثت نبوءة التدخل العسكري المدعوم مصريا أن تحققت، ففي الرابع عشر من فبراير من العام الماضي بثت قناة العربية الإخبارية شريط فيديو للجنرال خليفة حفتر، وهو أحد رجالات القذافي السابقين، يعلن فيها تعليق البرلمان والحكومة ويقدم خريطة طريق للبلاد من خمس نقاط. إلا أن رئيس وزراء ليبيا آنذاك علي زيدان سخر من انقلاب حفتر وقلل من خطورته قائلاً إن حفتر “بإمكانه أن يقول ما يشاء أو يحلم بما يريد”.
كانت تلك فقط هي المحاولة الأولى في سلسلة محاولات لحل البرلمان في طرابلس. ما لبث القتال أن اندلع بين المليشيات المصراتية والزنتانية، واستولت المجموعة المؤيدة للإسلاميين، والتي باتت تعرف باسم فجر ليبيا، على المطار وعلى طرابلس وعلى معظم مناطق المركز في البلاد. لن يتسنى لنا أبداً معرفة ما إذا كان التوازن الهش ما بعد القذافي بين المليشيات المصراتية والزنتانية قابلاً للاستمرار لوحده. ولعله ما كان له ان يصمد . إلا أن المؤكد هو أن حفتر ومصر والإمارات قاموا معاً بلا شك بدفع ليبيا الى حافة الهوة، والذي حفزهم على ذلك هو ضمان أن يكون لدى المستبد الذي يهيمن على مقاليد الأمور في مصر مستبد آخر في ليبيا المجاورة والثرية نفطياً.
تشير مصادر ليبية استخباراتية إلى أن حفتر نفسه لا يتورع عن التورط في عمليات تهريب البشر. ولقد نشر موقع عربي21 مؤخراً تقريراً ينص فيه بالتفصيل على أسماء القبائل المرتبطة بحفتر والطرق التي تستخدمها في التهريب.
ينقل موقع عربي21 عن مصدر أمني قوله إن قبيلة التبو، والمتحالفة مع حفتر، تنشط في نقل الآلاف من المهاجرين غير الشرعيين من الجنوب إلى الشمال مستخدمة طرقاً تخضع لحمايتها. وبينما يتجه ما نسبته 40% من الهجرة غير الشرعية نحو الشمال، يؤكد نفس المصدر أن 30% تتجه غرباً انطلاقاً من الحدود المصرية. وأضاف إن ضباط الجيش المصري يحصلون على عمولة عن التهريب، تماماً كما هو ديدنهم في كل تجارة أخرى تجرى داخل مصر.
“وأضاف إن كل شخص من المهاجرين يدفع مائة دينار ليبي لمهربين من أولاد علي في الجانب المصري حتى ينقلوهم إلى بلدة إمساعد الحدودية عبر شبكات تهريب يديرها ضباط داخل الجيش المصري والمخابرات المصرية، والذين يتلقون عمولة على كل مهاجر يتم تهريبه”.
إذن، نفس الناس الذي تدعمهم موغيريني وتدعمهم حكومات بريطانيا وفرنسا وإيطاليا متورطون حتى آذانهم في تهريب البشر – تماماً كما كان القذافي نفسه يستخدم الهجرة غير الشرعية أداة يمارس من خلالها الضغط على الاتحاد الأوروبي. يبدو، من هذه الناحية، أنه لم يتغير الكثير.
بينما تتجه سفن بريطانيا وألمانيا وغيرهما لمراقبة السواحل الليبية، يقوم حلفاء هذه الدول في مصر وليبيا بالدفع بأعداد متزايدة من المهاجرين نحو البحر.
ماذا يخبئ المستقبل لسيل المهاجرين المتدفق عبر البحر؟ مصر ذاتها ما لبثت تصبح أقل استقراراً يوماً بعد يوم. انطلاقاً من حدودها مع غزة عبوراً خلال شبه جزيرة سيناء حيث أقدم الجيش على تدمير ما يقرب من عشرة آلاف بيت إلى قلب مصر ذاتها، تجري حادثة عنف سياسي ضد الدولة كل تسعين دقيقة. بينما يتحول النضال السياسي في مصر أكثر فأكثر باتجاه العسكرة، وبينما يفقد ملايين المصريين الأمل في مستقبل اقتصادي أفضل، فلا مفر من أن تستمر في الازدياد أعداد المهاجرين المتسللين عبر نفس الخطوط البائسة.
هناك مئات الآلاف من المهاجرين العرب اليوم، ولكن الملايين مازالت توجد في الأماكن التي جاءوا منها.
نقلا عن موقع عربي 21