بالمقاييس الحسابية الصماء: هل إعدام كل هذا العدد من المصريين يحقق مصلحة لسلطة الانقلاب، بقيادة عبد الفتاح السيسي، أم يضر بها؟ لا يتصور عاقل أن دوران مقصلة الإعدامات بهذه الهمة في مصر يمكن أن يسهم في تثبيت الأوضاع السياسية القائمة، ولا يحقق منفعة راهنة، أو مستقبلية، للجهات التي تتحكم في مفاصل الدولة المصرية، بما فيها المؤسسة العسكرية، فضلاً عن أنها لا تضيف شيئاً لشعبية عبد الفتاح السيسي، الآخذة في الانهيار منذ فترة طويلة، بل إنها تعجل بتآكل الأرضية التي يقف عليها.
على مستوى الداخل، وضعت مجزرة تنفيذ قرارات الإعدام بحق أبرياء قضية “عرب شركس” قطاعات واسعة من جمهور ثورة يناير الذي انزلق إلى مستنقع الثلاثين من يومه، أمام مرايا الضمير، لتندلع موجة كربلائية من جلد الذات، ندماً على المساهمة في توصيل مجموعة من الفاشيست إلى سدة الحكم. نسفت إعدامات شبان أبرياء، كانوا قابعين في السجون وقت تنفيذ الجريمة التي لفقتها الحكومة لهم، نسفت ذلك الجدار الوهمي الفاصل بين لحظتي الثلاثين من يونيو/ حزيران 2013، لحظة انطلاق محاولة الانقلاب، والثالث من يوليو/ تموز من العام نفسه، لحظة الإعلان رسمياً عن تنفيذ الانقلاب، واختطاف رئيس الجمهورية المنتخب وسجنه.
كذلك أحرقت تلك المساحة الرمادية التي كان يختبئ فيها الذين يريدون الجمع بين أنواط يناير الثورة، ومكافآت ومنح يونيو الانقلاب، من “المعتزلة الجدد” الذين يضعون جريمة إطاحة الحالة الإنسانية والديمقراطية التي عرفتها مصر بعد 2011، في منزلة بين منزلتين، الانقلاب والثورة. ولا أظن أن ردود الأفعال سوف تقتصر على جلد الذات وإبداء الندم، كون أصحابها باتوا مدركين، أكثر من أي وقت مضى، أن منصات الجنون تطلق صواريخها على كل من يثبت عليه الاحتفاظ بهوية الانتماء لثورة يناير، وبعد الإجهاز على الفصيل الإخواني، ستبدأ، على الفور، حملة تضرب ذات اليمين وذات اليسار، لن تترك أحداً يمثل وجوده مساساً بنظرية “الكنز الاستراتيجي” الموضوعة إسرائيلياً، والتي تلقت ضربة موجعة مع ثورات الربيع العربي، الأمر الذي استنفر طاقات صناع الاستراتيجيات الإسرائيلية للبحث عن حلول لإجهاضها.
ويأتي قرار سلطة الانقلاب، أمس، بتأجيل تنفيذ قرار الضرائب على بورصة الكبار، من رجال أعمال زمن مبارك، والذي هو زمن الالتحاق بالمشروع الأميركي الإسرائيلي للشرق الأوسط، نوعاً من المكافأة المسبقة لمعسكر رجال الأعمال، في مواجهة احتمالات الخروج على دولة الثلاثين من يونيو، مع الوضع في الاعتبار أن رجال الأعمال هم، في الوقت نفسه، رجال الإعلام، والذي هو الماء والهواء لتنمية محصول القبح الذي تعيش عليه دولة السيسي.
ويعكس مثل هذا القرار بتدليل ممولي الانقلاب قلقاً لدى السلطات، من فقدان السيطرة على وسائل السيطرة على “دماغ المصريين”، بتعبير قائد الانقلاب، وخشية من إنجاز تقدم في مضمار المساعي المبذولة لاستعادة حالة ثورية، باتت مطلوبة على وجه السرعة، ومن يقف في طريقها، الآن، أو يحاول هدم ما يبنى في هذا الإطار، عليه أن يظهر للجماهير فوراً “كارنيه” عضويته في أجهزة نظام السيسي، حتى وإن زرعوا له أقوى حناجر الهتاف والصراخ الغبي. خارجياً، وباستثناء مهرجان الفرح الإسرائيلي بافتتاح عصر الإعدامات الجماعية، تضع هذه الإجراءات والقرارات القمعية الدوائر الرسمية الغربية في حرج شديد أمام رأي عام، تحدثه دوماً عن قيم العدالة والديمقراطية واحترام الحق في الحياة، وفي الوقت نفسه، تدعم، وبالحد الأدنى، تصمت على، انتهاكات وجرائم ضد الإنسانية تمارسها أنظمة، مثل نظام عبد الفتاح السيسي، ضد شعوبها.
ومن هنا، تكتسب زيارة عبد الفتاح السيسي ألمانيا أهمية قصوى في تحديد اختيارات المجتمع الدولي للمسألة المصرية في المستقبل، هل يريدونها نسخة من الحالتين السورية والليبية، بما تحتوي عليه من مخاطر اندفاع لتمدد داعشي في أماكن جديدة، وتحول سيناء إلى جرح دولي جديد، ينزف دماً مصرياً وفلسطينياً؟ أم سيقيمون الأمر بمعيار حزمة القيم والمعايير الديمقراطية والإنسانية، ويعلنون موقفاً محترماً ضد هذا الاستبداد المجنون؟ السؤال هنا: إذا كانت ضربة الإعدامات الجماعية سترتد إلى صدور السلطة الحالية، فلماذا أقدمت عليها، ومن هو المستفيد من وضع مصر على حافة الاحتراب المجتمعي الشامل؟ ربما تحمل تصريحات وزير الخارجية الصهيوني السابق، أفيغدور ليبرمان، شيئاً من الإجابة، حين قال في عام 2013 “الخطر الذي تمثله مصر بعد فوز مرسي أكبر بكثير من الخطر الذي يمثله البرنامج النووي الإيراني، وإن الأمر بات يتطلب توجيه الموازنات لمواجهتها”.