أما قضية “الفنكوش” فهي قضية “التخابر” الملفقة التي صدر قرار بإحالة أوراق المتهمين فيها إلى مفتي الجمهورية لإبداء الرأي فيها، وهي القضية التي لا تخلو تفاصيلها وأوراقها من مفارقات وطرائف عجيبة، تكشف حجم الانهيار القانوني والقضائي الذي وصلت إليه الأوضاع في مصر.
أما المتهم رقم 33 حسب أمر الإحالة الصادر من نيابة أمن الدولة العليا، فهو الدكتور عماد الدين شاهين، أستاذ العلوم السياسية في الجامعة الأميركية في القاهرة. ولا مبالغة فى القول، إن مجرد وضع اسم الدكتور شاهين في القضية كفيل بنسفها من جذورها وكشف زيفها وتهافت دفوعها.
شهادتي عن الدكتور عماد مجروحة، ليس فقط لأنه صديق عزيز وأخ كبير، وإنما، أيضاً، لأنني أنتمي إلى الحقل الأكاديمي والبحثي نفسه الذي ينتمي إليه، وهو حقل العلوم السياسية، فضلاً عن أن كلينا من المتخصصين فى دراسة ظاهرة الإسلام السياسي وتحليله من منظور بحثي موضوعي وناقد، ما يجعل كلماتي في حقه مجرد تأكيد لما هو بديهي. كما أن الحديث عن المكانة العلمية والأكاديمية للدكتور شاهين ليست محل تساؤل أو نقاش، فيكفيك فقط أن تضع اسمه على محرك البحث “غوغل” لكي تعرف إسهاماته الفكرية، أو أن تطلع علي سيرته الذاتية، لتعرف حجم هذا الرجل وقيمته، ومدى ما يحظى به من تقدير واحترام في الأوساط العلمية الأكاديمية، شرقاً وغرباً، وهو الذي حاضَر ودرّس فى كبرى الجامعات العالمية، وفي مقدمتها جامعات هارفارد وجورجتاون وكولومبيا وبوسطن…إلخ. كما أنه عضو في لجان علمية وهيئات أكاديمية عديدة، يتوق إليها كل باحث في العلوم الاجتماعية. باختصار، نحن إزاء شخصية استثنائية، علماً وخلقاً، تذكّرنا بجيل الكبار من العلماء المصريين الذين رفعوا اسم مصر عالياً في المحافل الدولية.
ما أود الحديث عنه، هو البعد الهزلي في القضية التي يُحاكم فيها الدكتور شاهين، والذي يكشف حالة العوار والتهافت التي تسير عليها العدالة في مصر. فحسبما تم تداوله، فإن وضع الدكتور شاهين فى القضية جاء بسبب وجود اسمه مصادفة فى إيميل تم تداوله بين أعضاء في جماعة الإخوان المسلمين حول كيفية الخروج من الأزمة السياسية أواخر عام 2011، بعد أحداث شارع محمد محمود ومجلس الوزراء.
وكان شاهين، مثل باحثين كثيرين مخلصين من أبناء مصر، يسعون إلى بناء وطنهم، بعد ثورة 25 يناير، على أسس الديمقراطية والحرية والمشاركة من القوى السياسية كافة. كما أنه كتب مقالات عديدة في الصحف المصرية، خصوصاً “الشروق الجديد”، طرح فيها مبادرات شتى تنادي بضرورة التخلص من “الأنانية السياسية”، وبناء توافق سياسي بين قوى الثورة، من أجل العبور بالبلاد من مستنقع الفوضى وعدم الاستقرار.
أما الجزء الأطرف في قضية “الفنكوش” فهي أن معظم المتهمين بها لا يعرفون الدكتور شاهين، ولم يقابلوه ولو مرة واحدة في حياتهم، ولو عرضت عليهم صورته لما عرفه أحد منهم، ليس فقط لأنها قضية ملفقة من أساسها، وإنما، أيضاً، لأنه من أقل الناس بحثاً عن الشهرة والأضواء.
ويظل الأمر الخفي في القضية ما يتعلق ببعدها السياسي المفضوح، فالدكتور شاهين من أشد المدافعين عن الدولة المدنية التي تحترم الجميع، وترفض العسكرة. وقد طالب في مقالات ودراسات عديدة بضرورة عودة العسكر إلى ثكناتهم، وأن تقوم المؤسسة العسكرية بدورها الأساسي في حماية الأمن القومي للبلاد، من دون التدخل في الحياة السياسية. كما كان من المحذرّين والرافضين عقد أي صفقة بين “الإخوان” والعسكر، قد تسمح لهؤلاء بالحصول على امتيازات سياسية ودستورية. كما كان الدكتور شاهين من أوائل الذين طالبوا “الإخوان” بضرورة الانحياز إلى الثورة وشبابها، والتأكيد على مبدأ السلمية أداة وحيدة للتعبير عن الرأي والمواقف السياسية.
أخلاقياً، وقف الدكتور شاهين موقفاً جريئاً، مثل بقية الشرفاء ضد انقلاب الثالث من يوليو 2013، وانتقد، بجرأته المعهودة، حالة التردي والتخبط السياسي التي تعيشها مصر، وذلك في مقالات ودراسات عديدة رصينة نُشرت بالعربية والإنجليزية. ومن المفارقات أن الدكتور شاهين كان، ولا يزال، من أشد الناقدين لسلوك جماعات الإسلام السياسي، وله ملاحظات عديدة حول مشروعهم الفكري والأيديولوجي، لكنه نقد قائم على أساس بحثي ومنهجي رصين، بعيداً عن لغة الكراهية السياسية والتخوين التي غرق فيها آخرون مصابون بمرض “الإسلاموفوبيا”.
أما إنسانيّاً، فإنني لم أقابل طالباً تتلمذ على أيدي الدكتور شاهين، داخل مصر وخارجها، ولم أتحدث مع زميل له، إلا وأثنى عليه، وعلى أخلاقه وإسهاماته العلمية وسمعته الطيبة، بمَن فيهم بعض مؤيدي النظام الحالي، مثل الدكتور سعد الدين إبراهيم، الذي كتب مقالاً قبل فترة يثني فيه على الدكتور شاهين.
وربما لا يعلم كثيرون أن الرجل كان، قبل ثورة يناير، “أستاذ كرسي” في جامعة نوتردام الأميركية، وهو منصب لا يصل إليه إلا قلة من الأساتذة، لكنه ضحّى به، وعاد إلى مصر بعد ثورة 25 يناير، من أجل المساهمة في إعادة بناء الوطن، بعد سنوات من التخريب الممنهج على أيدي مبارك وبطانته الفاسدة. وعلى عكس آخرين، لم يتعاط شاهين مع الثورة بمنطق “السبوبة”، ولم يسع إلى الاسترزاق والمتاجرة بها، مثلما فعل آخرون من باحثي السياسة وعلمائها الذين تحولوا إلى أبواق للسلطة، يتلونون بلونها، ويدورون معها أينما دارت.
باختصار، نحن إزاء رجل يحمل الكثير من قيم العلم والأخلاق والإنسانية، وما يحدث معه ما هو إلا محاولة للانتقام من شخصه ومعاقبته على مواقفه السياسية والأخلاقية، وكذلك محاولة لردع وإسكات كل الأصوات العاقلة والمحترمة التي تطالب بالخروج من الأزمة السياسية الراهنة، ولله الأمر من قبل ومن بعد.