عندما تشعر الأفيال بقرب موتها أو بالإنهاك فهي تذهب إلى أماكن المياه، وقد تموت هناك.
نداء خاص إلى جيلي.. جيل ما فوق الـ45.. أرجوكم بل أتوسل إليكم.. كونوا كالأفيال.. فلنذهب جميعا لأي ملجأ أو موطن هادئ ولنموت سرا.. دعوا الحياة للمستقبل القادم، دعوا الصراع يأخذ مصيره المحتوم بين جيل الحلم وجيل الكابوس.. بين جيل العشرينيات والثلاثينيات الذين يحلمون بشكل مختلف، الذين يغنون ويلعبون ويموتون أمام الرصاص متشابكي الأيدي، وبين جيل السبعينيات الذين تحجروا كالأصنام.
إننا يا سادة نحمل في طياتنا فيروس القهر.. لا شفاء منه، فهو مرض عضال، لا يملك الإنسان معه إلا الموت في هدوء مستسلما.. مفسحا مكانه لنبتة أكثر إزهارا.
إننا يا سادة نشأنا في عصر ينتج القهر كالماء، يتقاطر كالمطر، فسقانا وغسلنا وأغرقنا حتى الثمالة، نشأنا في عصر الرئيس الواحد، والمطرب الواحد والفريق الواحد.. نشأنا تحت لافتات متعفنة مهترئة حملناها فوق صدورنا كبطاقات الهوية، لافتات من عينة “مالكش دعوة بالسياسة”.. “الباب اللي يجيلك منه الريح”.. “ما يعيب الراجل غير قرشه”.. “الجري نص الجدعنة”.. مثل هذه اللافتات التي زرعت فينا السلبية والقهر والخوف والسجود بجوار حائط قديم، ومحت الرجولة والمروءة والتصدي لكل ما هو رخيص ودنيء عشنا عمرنا ندور في ساقية أكل العيش وبناء بيت متهالك كبيت العنكبوت، نعني بأثاثه ودهانه وموقعه، ومساحته أضعاف ما نعني بمن يعيش تحته.. عشنا عمرنا مرتعدين مرتعبين لكل ما يهدد مشروعاتنا الذاتية.. فصارت خياراتنا تترنح ما بين الرضا بالقليل والمتاح، وما بين المفاوضات والمساومات والرجوع للخلف بدلا من التصدي للأمام.
نحن الذين اخترعنا نفاق الحاكم والدين الظاهري والحلول الوسط. نحن الذين اخترعنا الواسطة والفهلوة والشطارة الخرقاء.. نحن الذين تقطر من ذقوننا ماء الوضوء ونفتح أدراجنا لعشرين جنيها مدنسة.
إننا يا سادة لا نملك عقلا مبدعا فقد مات تحت وطأة القهر والمحاباة، عشنا نعرف أن الأخلاق لا تطبق إلا على ذوينا بل ولعلها تتهاوى إن تعارض ذوينا مع مصالحنا، عشنا نرى الجمال والرقي والقيم من رفاهيات الحياة، حين أصبحت الانتهازية والتسلق والنفاق من مستلزماتها.. عشنا.. بل ما عشنا.. بل مضينا في مشوار العمر كقطيع النعاج يتهافت نحو موطن الكلأ والماء فما عدنا نأمل في بيت آدمي بحديقة وشجيرات متناثرة تحمل زهرا ملونا.. أصبح أكثر أحلامنا.. أرضا أكثر عشبا، وعين أصفى ماءا ولو كان ماء مجارى لطلبنا مجارى أقل سوادا.
إننا نحمل الفيروس في دواخلنا، وصرنا ننقله لمن خلفنا، نبصقه في أفواههم موقنين أننا نعطيهم الترياق.. ونشعر بالرضا حين يسرون خلفنا في طابور القطيع الممتد على طول الصحراء.
عندما حلم الصغار، صارعنا حلمهم حتى صرعناه، عندما جادلونا أخرسنا أفواههم، عندما عارضونا صفعنا وجوههم، عندما أخبرونا أننا بشرا، سخرنا منهم وصرنا نردد النكات البذيئة حول الحالمين بعالم أكثر آدمية، وجعلنا خوفنا الغريزي يمحق غريزتهم الإنسانية.. فبالله عليكم.. دعونا نستريح من صراعات لن نحيا نتيجتها، دعونا نموت سرا كالأفيال وندفن فيروساتنا معنا فهو أفضل ما نستطيع تقديمه لصغار القطيع.
أما الصغار المتعثرين خلفنا من أثار أقدامنا الغليظة، فيا أحب مخلوقات الكون، لا تتبعونا، لا تصدقوا كهولتنا، لا تظنوا أن خلف شعيراتنا البيضاء تكمن أي حكمة من أي نوع، فقد فقدناها عند مرأى عشبنا يجف ويحترق فأكلنا الرماد وتجرعنا الصديد.. لا تصدقونا، لا تتبعونا.. لا تصدقوا عالما أو سياسيا أو أديبا أو قائدا أو شيخا.. انظروا لنا وابتسموا في رفق واتركونا نموت.. لا تأخذكم الشفقة علينا، ففي موتنا شفاؤنا ونجاة القطيع.. لا تتبعوا آثار أقدامنا.. لا تظنوا أننا نعرف الطريق.. فطريقنا لا يمتد بعد الهوة السحيقة بل يسقط لأسفل سافلين.. لا تتوارثوا خبراتنا الملوثة.. خوضوا معاركم ولا تنتظروا منا حتى الدعم.. لا تنتظروا منا أن نحمل جرحاكم أو ندفن موتاكم.. فحتى موتاكم أخشى عليهم من فيروساتنا..
فأمام الله ستقفون شجعانا حين سننزوي نحن نادمين خاطئين.. ياشباب كل التيارات، انزعوا ولاءاتكم ، وضعوها في حكمتكم الوليدة.. وإن غلبتكم عاطفتكم على آباء قتلهم الجهل والخرق والقهر، فضعوا عى أعينكم لفافة سوداء، فستريكم الطريق أفضل من أعيننا العمياء.. حين لا ندرك كم عمياء هي..
يا أحب الناس.. خرجتم تهتفون تريدون إسقاط النظام.. عفوا يا أبنائي الأعزاء.. نحن النظام!