المشهد الأول:
اعتقل في العاشر من رمضان في العام 1418هـ، قبل أن يكمل الثامنة عشرة من عمره، وقبل أن ينهي الثانوية العامة (التوجيهي)، حيث اعتقل في اليوم الأول للفصل الدراسي الثاني، وقد كان هذا الظرف واحدا من العوامل التي شكلت مشاعره المعقدة تجاه هذا الاعتقال الأول في حياته، فهو ما بين الإدراك الواعي بتغير مستقبله تماما بعدما كان طالبا متفوقا يرسم آماله الأكاديمية منذ الطفولة، وما بين الرغبة الجارفة في تجربة الاعتقال، وهي رغبة محمولة على الكثير من النزعات الطفولية الساذجة، وما بين انتزاعه من أحضان والدته التي ربته يتيما منذ أن كان في التاسعة من عمره، وما بين اختبار النفس في حالة مركبة من التحدي، يواجه فيها ضعفه ويواجه فيها عدوه.
قالت له والدته ليلة الاعتقال بعدما سحبه جنود العدو خارج البيت، إلى سياراتهم المصفحة: “متخفش يمّا، هذول بخوفوش”. لازمت هذه الكلمة صدره طوال التحقيق في مركز تحقيق سجن عسقلان، وصارت زادا يستقوي بها على ضعفه في كل دقيقة. في مركز التحقيق هذا، أكمل بقية رمضان، وصباح العيد تسلل إلى سمعه صوت ضعيف جدا، كان قادما من غرف المعتقلين الدائمين في السجن، تبين من اللحن المألوف أنها تكبيرات العيد.. غرق كثيرا في فكره تلك اللحظة، ولم ينج من ذلك الغرق إلى اليوم!
المشهد الثاني:
في المعتقلات التي كان يديرها جيش العدو، والمكونة من الخيام المفتوحة على الساحات المحصنة بالجدر والأسلاك؛ يستعد المعتقلون ليلا لعيدهم القادم، بالاغتسال وتحضير ملابسهم الأفضل والأليق بهذه المناسبة، انتظارا لصلاة العيد. يصلون العيد ثم يتحلقون بعد ذلك في ساحة القسم ينشدون، ثم يدورون على بعضهم في الحلقة، يتعانقون مهنئين بعضهم بعيدهم هذا.
وحده كان الذي لا يهتم بارتداء الأفضل للعيد، ولا يرتدي إلا ما كان يلبسه في يومه السابق، ولا يجد معنى لهذا الطقس الذي يحرص عليه المعتقلون في كل عيد، تماما كما أنه، وبخلاف المعتقلين لم يكن يهتم بارتداء الأفضل يوم زيارة الأهل أو يوم المحكمة التي سيرى فيها أهله، كان يعتقد بأن كل هذا عبث ويخلو من معنى ذي وجاهة، ثم يعود ويقدر بأنها شيء من خصاله التي تصاحبه إلى داخل السجن.
يحاول أن يفهمهم، وأن يأول سلوك المعتقلين بأنها الرغبة في انتزاع الحياة من بين براثن السجان، لكنه ورغم الأعياد المتعاقبة التي تقلب فيها على أسرة السجون لم يتمكن بعد من الانسجام مع عادات المعتقلين يوم العيد.
المشهد الثالث:
أدركه رمضان وهو في غرفة التحقيق الواسعة التي ضمت أكثر من عشرين سجينا لدى السلطة الفلسطينية هذه المرة. كان مختلفا عن الجميع بالفعل في هذا الاعتقال، فقد كان وحده المقدم إلى محاكمة عسكرية، بينما كان الآخرون في انتظار الإفراج في أي لحظة. سكنه إحساس عميق بأنه لن يرجع سريعا إلى أهله، وكان يتحسس هذا الشعور بقوة ووضوح حينما يسأل ربه الفرج، وكأن نداء ما وبصورة خاصة جدا يهتف في صدره بأن ينتظر، وأن يختبر نفسه اختبارا جديدا لم يألفه بعد. حاول أن يتبين ماذا يعني أن يكون مقدما لمحاكمة عسكرية على خلاف كل المعتقلين السياسيين الذين سبقوه، لكن أحدا، بما في ذلك سجانوه، لم يكن يعرف ماذا يعني ذلك بالضبط وماذا سيترتب عليه.
أفرج عن كل المعتقلين الذين شاركوه الغرفة، وجاوروه في الزنازين، بالتدريج طوال شهر رمضان، حتى جاء صباح العيد، فوجد نفسه وحيدا في الغرفة الواسعة، ووحيدا في مركز التحقيق كله، ووحيدا في المقر كله.. حُكم في هذا الاعتقال بثلاث سنوات، تكثفت فيها أنواع من الابتلاء لم يسبق له أن اختبرها، ولا يبدو أنه سيشفى من آثارها، لكن وحدته أيام العيد تلك هي الأكثر التصاقا بصدره وتشبثا بأحاسيسه، والأكثر تذكيرا له بوحدته الدائمة!