فقد خاضت المقاومة الفلسطينية معركتها هذه، وفي طليعتها حركة حماس، في ظروف معاندة تمامًا، يتقدمها الحصار المحكم المضروب عليها من طرف العدو الصهيوني ونظام الانقلاب في مصر، لتدير معركتها في مساحة جغرافية بالغة الضيق ومكشوفة التضاريس وفي ظل كثافة سكانية ضاغطة تقلص من فرص المقاومة في المناورة أو حماية المدنيين الواقعين بكليتهم أسفل نيران العدو شديدة الكثافة والقدرة التدميرية.
وبالمقارنة مع المعارك الأخرى التي ألهمت الفلسطينيين وشكلت علامات فارقة في مسيرتهم الكفاحية؛ فإن حرب العصف المأكول هي الحرب الأصعب، ولكنها الأفضل من طرف الفلسطينيين والعرب، على مستوى الأداء القتالي، وتحقيق الإرادة الصلبة في مواجهة مسلحة غير متكافأة أبدًا، واختراق الظروف الطبيعية والسياسية والأمنية غير المواتية، فمعركة الكرامة (21 مارس 1968) خاضها الفلسطينيون إلى جانب الجيش الأردني، انطلاقًا من الأراضي الأردنية، واعتمادًا على نيران الجيش الأردني بالدرجة الأولى، ذي الفاعلية الأكبر في المعركة، وفي ظل الدعم العربي الذي بدأت تتلقاه المقاومة الفلسطينية من بعد هزيمة النظام العربي في حرب العام 1967، ويمكن اعتبار الأراضي الأردنية كلها ساحة محتملة لهذه المعركة التي استمرت عددًا من الساعات وحسب.
أما حرب تموز (12 يوليو– 14 أغسطس 2006) التي خاضها حزب الله ضد العدو الصهيوني، واستمرت شهرًا كاملاً، فقد أدارها حزب الله من على الأراضي اللبنانية المحررة بالكامل، والتي تزيد على مساحة قطاع غزة أكثر من عشرة آلاف كيلو متر مربع، والمتصلة بسوريا التي يحكمها نظام متحالف مع حزب الله ومع مرجعيته الإيرانية، وداعم للمقاومة عمومًا في ذلك الوقت، الأمر الذي مكن السكان في أرض المعركة من الانتقال إلى الأراضي اللبنانية الأخرى التي لا تعاني القصف الصهيوني، أو إلى الأراضي السورية، وهو ذات الأمر الذي مكن حزب الله من استقبال تدفق الدعم التسليحي من كل من سوريا وإيران، وهذا العامل الموجود أساسًا وفّر لحزب الله منذ قبل المعركة قدرات تسليحية هائلة، وعلى الرغم من أن هذه الحرب قد جاءت في ظروف إقليمية ودولية معادية للمقاومة، فإن حزب الله تمتع بدعم ما كان يعرف في ذلك الوقت بـ”محور المقاومة والممانعة”، والذي كان يحتفظ بعافيته إلى حد كبير، ويقف على غير الأرض التي يقف عليها اليوم.
في مقابل ذلك كله، جاءت حرب “العصف المأكول” في ظروف إقليمية ودولية تستهدف حركة حماس لأسباب مركبة، من جهة وقوفها على رأس المقاومة الفلسطينية، ومن جهة انتمائها إلى فضاء الإسلام السياسي الذي تحالف الإقليم العربي لاجتثاثه نهائيًا من بعد الانقلاب في مصر، بتدبير ودعم وغطاء صهيوني ودولي، وبعدما خسرت دعم أصدقائها السابقين في المحور الإيراني، وهو الدعم الذي كان قد توقف حتى قبل سنتين من الحرب، لتعتمد حماس بذلك كلية على مخزون أقربه عهدًا بالحرب مضى عليه سنتان، وعلى قدراتها التصنيعية، مع صعوبة بالغة في تعويض الخسائر وتعزيز القدرات التسليحية، بسبب إجراءات نظام عبدالفتاح السياسي التي دمرت الأنفاق وحرمت المقاومة من شريان الحياة الخارجي الأهم بالنسبة لها، إضافة إلى الطبيعة الخاصة لقطاع غزة الذي لا تزيد مساحته على 360 كيلو مترًا مربعًا، والمكشوف تمامًا للقدرات الاستطلاعية الصهيونية، وبُعد القطاع عن أي داعمين مفترضين، ما يجعل إدخال السلاح النوعي، في أي وقت، قبل الحرب أو أثناءها أو بعدها، إلى القطاع، أمرًا معقدًا ومحفوفًا بالمخاطرة العالية واحتمالات الفشل الكبيرة.
لقد قاتل قطاع غزة وحده في هذه المعركة التي استمرت أكثر من 50 يومًا، فحتى الضفة الغربية كانت عاجزة عن إسناده ومؤازرته وخوض معركته على أي طريقة ممكنة، بينما تحالف الإقليم العربي مع العدو الصهيوني ضد قطاع غزة ومقاومته، في ظرف افتقرت فيه حماس، العمود الفقري للمقاومة الفلسطينية، لأي داعمين جديين ولا سيما فيما تعلق بالجانب العسكري، ومع ذلك تمكنت حماس، ومعها بقية فصائل المقاومة، من تحقيق معجزتي الصمود والأداء القتالي الرفيع، ما يجعل هذه الحرب في الذروة من نضالات هذا الشعب، وهذه الأمة، فكيف فعلت حماس ذلك؟!