الصحيح أن زيارة وفد حركة حماس للسعودية كانت لغرض العمرة، كما قال وزير الخارجية السعودي مؤخرًا، وكما تعاملت معها في الأساس المصادر الإعلامية السعودية الرسمية، لكن الصحيح أيضًا أنها لم تكن كذلك فحسب، لا من طرف حماس ولا من طرف السعودية، فاستجابة الأخيرة للطلب بعد رفض طويل لا يحمل إلا دلالة سياسية، حتى لو كانت في بعضها ناجمة عن الاستجابة لعدد من الوساطات التي دفعت بها حماس، كما أن قرار السعودية بالإفراج عن معتقلين لحماس مضى عليهم قرابة العام وبعضهم يتولى مسؤولية ملفات كبيرة للحركة.
وتنفيذ هذا القرار أثناء الزيارة، لا يحمل إلا دلالة سياسة، وحصول ذلك كله عقب اتفاق النووي بين الدول الغربية وإيران محل اعتبار في التحليل السياسي، وبالإضافة إلى ذلك فقد اجتمع وفد حماس بمستويات أمنية سعودية رفيعة، وإن لم يكن لقاء الوفد برؤوس الدولة كما جرى الترويج له، ففضلا عن التهنئة العابرة بالعيد التي قدمها الوفد للملك ووليي العهد، تتحدث المصادر عن اجتماع رسمي قصير بالأمير محمد بن سلمان، على نحو انتهى بترتيب لاتصال قادم.
مثل هذه الزيارة وفي ترتيب أفضل من جهة الشكل والمضمون، حصلت مرات عديدة، حتى زمن الملك الراحل عبدالله، ودون أن يعتبرها أحد ذات دلالة على تحول في التفكير السعودي، الثابت في جملة من الأصول والمبادئ داخليا وخارجيا، والمتحول في عدد من السياسات، بيد أن المختلف هذه المرة هو الظرف والسياق الذي جاءت فيه هذه الزيارة لا من جهة علاقة السعودية بحماس فحسب، وهي علاقة يعاد استئنافها من بعد قطيعة جدية اتخذت طابعا صراعيا في الفترة الأخيرة من حكم الملك عبد الله، ولا سيما من بعد الانقلاب في مصر، وتنظيم حملة استئصال للتيار الإسلامي الحركي عموما، وفي القلب منه تنظيمات جماعة الإخوان المسلمين.
ولكن أيضًا من جهة جملة التطورات في المنطقة والتي أبرزها صعود قيادة جديدة للحكم في السعودية ومواجهتها تحديات، في بعضها كان مخلفات من العهد السابق، كالسياسات التي ساهمت في انقلاب الحوثيين في اليمن؛ إذ تمحورت سياسات العهد السابق على تقديم الخصومة للإسلاميين وفي طليعتهم الإخوان المسلمين على أي اعتبار آخر، في إطار تحالف إقليمي لا يبدو في بعض أطرافه منفكا عن ترتيبات “إسرائيلية” وأمريكية، وقد تولى المسؤولية الأولى عن هذه السياسات سعوديا شخصيات نافذة جدا في ديوان الملك السابق كانت ترتاب بها جهات واسعة في العائلة المالكة منها عائلة الملك الحالي سلمان.
كان صعود القيادة السعودية الحالية إذن مؤشرًا بإمكان حصول تغيير في السياسات السعودية، لتغير الأولويات موضوعيا، وللموقف من مسؤولي السياسات السابقة ذاتيا، وقد أكدت ذلك بالفعل ثلاثة أشياء على الأقل من ناحية ما ينبغي أن تتنبه إليه الاحتياجات والأوليات السعودية: الأولى حرب اليمن، والثانية اتفاق القوى الغربية وإيران حول البرنامج النووي للأخيرة، والثالثة مفارقة سياسات النظام الانقلابي في مصر للاحتياجات والأولويات السعودية، وعلى نحو يكشف بأن رؤية هذا النظام لا تنبع من موقع التبعية للممولين الخليجيين، على عكس ما كان عليه نظام مبارك الذي راج طوال ثلاثين عاما بأنه داخل في “الحقبة السعودية”، ولكن ليس من المؤكد أن القيادة السعودية الحالية قد تبينت فعلا الجهات الحقيقية التي تتحكم برؤية النظام الانقلابي المصري بما يجعل مليارات السعودية التي أنفقت عليه هباءً منثورًا.
كان ذلك يكفي لتوقع حصول تغيرات محدودة من شأنها أن تفسح المجال لانفراجات لصالح قوى التغيير في المنطقة، وبما يخفف الضغط عن الإسلاميين، حتى وإن لم تجمعهم قواسم مشتركة صلبة مع العهد السعودي الجديد، بيد أن هذه الانفراجات المحتملة جرى رفعها من طرف بعض المثقفين وبعض ساسة الإسلاميين إلى مستوى تغيرات في التفكير السعودي تضع السعودية في موقع المتحالف مع قوى التغيير في المنطقة وفي طليعتهم الإسلاميون، وحماس بصفتها حركة مقاومة.
تبدو هذه التوقعات أكبر من أن يحتملها العقل في اللحظة الراهنة، ولكنها راجت بشكل مدهش، بما ينبئ عن مستوى الضغط الذي يعيشه الإسلاميون إلى الدرجة التي تتحول فيها الأماني والرغبات إلى وقائع صلبة في الوعي المأزوم، وقد عزز هذه التوقعات المتضخمة بالإضافة إلى التطورات والتحولات التي ذكرتُ بعضها، كتابات بعض الصحافيين الغربيين الذين ينالون ثقة من موقعهم المحايد الذي لا يمكن وصفهم فيه بمن يقتات على الأوهام، وحماسة بعض مثقفي وإعلاميي السعودية الذين أعجبهم الظهور بصورة المقرب من صناع القرار الجدد، بصرف النظر عن حقيقة ذلك، وترويج بعض الإسلاميين السعوديين للعهد الجديد انطلاقًا من دوافع متعددة، فبعضهم يرغب في إثبات وطنيته من بعد مكارثية السَنَة الأخيرة من العهد السابق.
وفي دول تقاس فيها الوطنية بمدى الاتفاق مع الحاكم، وبعضهم لأسباب ذرائعية صرفة، وبعضهم بهدف التأثير على سياسات العهد الجديد، وبعضهم في ممارسة دور تقليدي، فقد اعتادت السياسات السعودية على أنماط متنوعة من احتواء الإسلاميين المحليين، فذات الشخصيات التي فسح لها العهد السابق المجال العام لمواجهة القاعدة عاد وضيق عليها من بعد الثورات العربية، وهذه واحدة من الأدوات التي تستخدمها السعودية منذ عشرين عاما على الأقل، وهي حاضرة بقوة الآن مع العهد الجديد.
وفي السياق أيضًا، عزز التوقعات المتضخمة، ارتباك النظام الانقلابي في مصر تجاه العهد الجديد، وما بدا من تمايز بين الأولويات الإماراتية والسعودية، واقتراب السعودية من قطر، وتحسن في علاقاتها بتركيا، حتى حمّل بعض المساهمين في النقاش العام نصائحهم للسعودية أكثر مما تحتمل، وتصرفوا وكأن كتاباتهم ستؤثر فعلا بما يرقى بالسعودية إلى مستوى الحامل لعملية التغيير الكبرى التي تكتسح المنطقة منذ اندلاع الثورات العربية، وقد بالغ بعضهم للأسف وانزلق إلى مستوى التزلف للعهد الجديد.
إن المشكلة في التعاطي مع العهد السعودي الجديد تكمن في رفع سقف التوقعات، ورفع التغيرات الجارية في السياسة السعودية إلى مستوى التغير في الثوابت السعودية الراسخة منذ دخول السعودية في مظلة الحماية الأمريكية، وتحويل الوعي المأزوم الانفراجات البسيطة إلى تحالفات وثيقة لا وجود لها إلا في الخيال المحض، وبالرغم من أن التطورات الجارية ينبغي أن تدفع السعودية إلى مثل هذا التحول، فإنه لا ينبغي أن نتوقع بأن العهد الجديد سيتصرف بهذه السرعة وفقا لما يجب أن يكون، فلا العامل الذاتي يؤهل إلى ذلك من حيث الكفاءة والقدرة على تجاوز الأنماط السائدة منذ تأسيس الدولة ومن حيث اطمئنان العهد الجديد إلى استقراره وضمان ولاء العائلة الحاكمة، ولا العامل الموضوعي المتمثل في الهيمنة الأمريكية وجسامة التحديات الإقليمية يعين على اتخاذ القرارات الصحيحة في وقت سريع.