خلدت مذبحة فض ميدان رابعة، ذكر محافظة المنوفية بعمارتها التي أطلق عليها اسم “عمارة المنايفة”، والتي كانت حائط صد رئيسي أوقف قوات الأمن وصدها عن اقتحام الميدان لأكثر من خمس ساعات، سقط خلالها نحو 55 شهيدا.
وتقع “عمارة المنايفة” في شارع الطيران على الجهة المقابلة لمحطة البنزين، وبحسب شهادات الناجين من المذبحة، فإنها شهدت واحدة من أكبر المذابح خلال يوم الفض، إذ إنها كانت حائط الصد في وجه تقدم قوات الأمن نحو قلب الميدان، قبل أن تقتحمها “القوات الخاصة” مدعومة بمروحيات هليكوبتر.
وقد عرضت قناة “الجزيرة الوثائقية”، مساء الخميس الماضي، فيلمًا وثائقيًّا، بعنوان “عمارة المنايفة”، يرصد صمود المعتصمين داخل إحدى الأبنية التي كانت تحت الإنشاء خلال أحداث الفض.
وفي ما يلي شهادات بعض الناجين من المجزرة عما حدث:
أحمد سيف
“كنت صبيحة يوم 14 أغسطس 2013 في منزلي، وبعد صلاة الفجر ظللت أتابع القنوات الفضائية لكثرة التنبيهات التي وردت عن احتمال الهجوم والفض اليوم، لكن التنبيهات كانت قد تكررت كثيرا في أيام سابقة، ولا ينتج عنها شيء، فلم نكن نعلم حقيقة التنبيهات هل بالفعل ينوون الفض أم كانت مجرد تخوفات؟
مع المتابعة لحظة بلحظة سمعت استنفارات ونداءات من المنصة ثم فض مفاجئ وأنباء عن سقوط شهداء فكلمت حمايا وزوج أختي وتحركنا سريعا بالسيارة، ونحن في الطريق سمعنا عن سقوط شهداء كثر والعدد يتزايد بغزارة.
وصلنا إلى مسجد السلام بالعاشر بمدينة نصر حوالي الساعة 8 صباحا، وبدأت الأعداد تتجمع وتهتف وتتحرك، وهكذا كلما تجمع عدد تحرك، والشعب أما معك ينضم لك أو يهتف بالموت ضدك، وقسم ثالث عامل نفسه مش من هنا.
تحركت المسيرة من السلام مرورا بعباس العقاد ومرورا بكل ماركت أو صيدلية نشتري ما نستطيع من مياه وكولا للتخفيف من حدة الغاز المسيل للدموع وقطن وخلافه.
وصلنا لشارع مصطفى النحاس الشارع الرئيسي حول رابعة، والقوات كثيفة بشكل غير طبيعي طبعا ولكنها أمامنا عن بعد، ثم تجزأت المسيرة إلى مسيرات صغيرة، وتسللنا فرادى بين العمارات وبدأنا نسمع أصوات الرصاص الكثيف والسماء السوداء، والمدرعة صاحبة الصوت المنادي على الثوار بالإخلاء يتصاعد مع نفس صوت الرصاص والمروحيات.
دخلنا مدخل شارع خلفي يدخلنا مباشرة على عمارة المنايفة وبعد 50 متر من مستشفى رابعة.
كان المنظر فظيعا لم أشهد مثله قط؛ خيام محترقة بما فيها وما تحتها، وشيخ اسودت لحيته التى بيضها الشيب ينادي على الشباب بالثبات والصبر ويعدهم الجنة، وإخوة ظهر عليهم الإرهاق والتعب ينادون على القادمين من الخارج: “أهلا يا إخوانا تعالوا، أنقذونا، اقفوا مع إخوانكم”، وكانت السماء سوداء والشباب يحاول الصد من عمارة المنايفة قدر ما يستطيعون، أعدوا زجاجات مولوتوف لمثل هذا الموقف، لكن ماذا تفعل زجاجة بنزين أن تفعل بمدرعات محصنة، تحترق ويكبر الشباب ثم سرعان ما تنتهي النار وتكمل المدرعة عملها بكل دأب؟!!
عبرت شارع الطيران في وجه لودر ومدرعة ومشاة وطائرة ومن ورائهم سيارات دعم أخرى، كل هذا عند بنزينة شارع الطيران أمام عمارة المنايفة .
عبرت الطيران ووقفت مع الواقفين أصد لكن ماذا أفعل؟ بقنبلة غاز يتراجع الشباب إلى الخلف ويكسب الأمن جولة، ويكتسحون مساحات ويخلعون أشجارا ويقتلون شبابا.. كان المنظر مروعا للغاية.. لم أستطع الثبات في هذا المكان لشدة تأثير الغاز على عيني، اختل توازنى لأكثر من مرة، بعد ساعة تقريبا عبرت الطيران مرة أخرى إلى أسفل عمارة المنايفة، وجدت أخا ينادي “الشباب يطلع فوق إخوانكم من الصبح بيحدفوا طوب مابقوش قادرين اطلعوا ساعدوهم”، صعدت حتى الدور الرابع، العمارة تحت الإنشاء، لا تستطيع أن تنظر إلى شارع الطيران من العمارة إلا لفتة سريعة قد تطير فيها رأسك، ولا بد أن يكون ذلك استتارا من خلف عامود وإلا صادك قناص من الطائرة التى تحلق فوقك، ثم ترمي بحجارة وتقول يارب.. إحساس بالعجز لكن ما باليد حيلة..
أنهكنا وأرهقنا وتعبت السواعد، في الغرف الداخلية بالعمارة أحدهم أحضر أكلا خفيفا يقتات به الشباب، وإلى جوارهم بعض الشباب ألقي ظهره إلى الأرض يستقوي بدقائق من النوم حتى يعاود ويريح أخاه الذي يرمي الحجارة.
يوم عصيب جدا ظل عصيبا لكن بهدوء حتى جاءت الساعة الثالثة وكأن الأمر جاء بالإنهاء فورا، فتضاعف حجم الرصاص من أعلى ومن أسفل والقتلى سقطوا كثيرا في غرف العمارة، وفجأة الكل يصرخ دخلوا العمارة من تحت.. وأنا اسأل يعني ايه؟ خلاص؟ كده خلاص؟ وجدت صديقي حسام عاطف ووالده على السلم، ونحن نتساءل ماذا نفعل؟ نظرنا من واجهة العمارة الخلفية الموازية لشارع الطيران فوجدنا سقالات كانت منصوبة لبناء العمارة، في ثواني كان الكل وبلا تفكير يتسلق وينزل عليها قفزا، كل دور فى قفزة واحدة للسقالة الموازية للدور أسفله، نزل والد حسام ثم حسام ثم نظر إلى حسام وقفزت أنا، بمجرد وصولي للأرض واختبأنا خلف العمارة الخلفية وجدنا الجنود احتلوا أعلى العمارة بل ويصوبون بنادقهم نحونا واستترنا منهم وغبت عن حسام لكني علمت بعدها أنهم اقتنصوه هنا برصاصة غادرة فارق معها الحياة.. رحمه الله هو وإخوانه.
خرجت في ذهول من نفس المدخل الذي دخلت منه وأنا انظر إلى الجنود وهم يسبوننا بأحط الشتائم وأقذرها، وبعض المتسولين يسرقون محتويات كانت في الخيام كانت ملقاة على الأرض كالمراوح والتليفزيونات وخلافه.
في طريقي للعودة انتظرت حمايا بعد علمي أنه مصاب بخرطوش في رقبته جاور الشريان بملليمترات قليلة.. انتظرته لأنهم قالوا لهم اخرجوا حالا، وإلا أحرقناكم بالمستشفى، وبالفعل خرج يحمل الجلوكوز في يده وحرقوا بعدها المستشفى، انتظرته واطمئننت عليه وسلمته لأحد الإخوة يخرج به الخارج، أما أنا فأبحث عن زوج أختي الذي ذهب يستلم جثة زوج أخته الذي فارق الحياة في الساعة الأولى من الفض وما زال يبحث عن جثته بين الجثث ولم يتعرف عليه بعد.
دخل يبحث عن زوج اخته وانتظرته أنا في نفس المدخل، حيث كل الناس انصرفوا ولم يتبقي إلا عدد قليل من الناس يخرجون الجثث من داخل المستشفى وهم يصرخون: “المستشفى بتتحرق ألحقوا ساعدونا نطلع الجثث”.
انتظرنا الجثة وطلبنا إسعاف، جاءت الإسعاف واستلمت الجثة وجثة اخرى معها وذهبت بهما للمستشفي، كانت الساعة الحادية عشر مساء.. لم يكن لي مكان بسيارة الإسعاف أنا وثلاثة من رفقاء الشهيد الآخر.. فتبعناهم في سيارة ملاكي خلفهم .
خرجت الإسعاف عابرة الميدان ونحن خلفها، رأينا كل ما تم تدميره وحرقه والظالمون بكل قياداتهم واقفون فرحون بما قدموا أمام المنصة المنكوبة المحروقة والمسجد المحترق، حتى خرجت الإسعاف وخرجنا خلفها من أمام مبنى الكشافة المركزي، كانت قوة من القوات المسلحة تتمركز هناك، أوقفونا قلنا لهم نحن مع سيارة الإسعاف، تحفظوا علينا حتى عصر ثاني يوم داخل مبني الكشافة الذي كانوا يحتلونه حتى الإنتهاء من مهمتهم.. تحفظوا علينا حتى جاءهم الأمر بالانتقال والعودة إلى معسكرهم الأساسي فأخلوا سبيلنا”.
عمرو
يقول: “على عكس العادة لم أذهب للنوم في مسجد خارج الميدان ونمت قبل الفجر وصحيت على الصلاة، وبعد الصلاة نمت وصحيت الساعة 6 حيث كان من المقرر خروج مسيرة إلى محافظة القاهرة ولكن تم إلغاؤها..
وجاءت لحظة البدء في الفض بالغاز المسيل حيث بدأ أول إطلاق للنار والغاز الساعة 6.15 تقريبا، فغيرت حذائي، وبدأت اتوتر وابحث عن بيبسى وخل، وسرعان بما بدأت الطائرات في التحليق ليسقط شهداء في الميدان عن طريق القناصة، وظللنا واقفين أمام الخيمة أمام بنك مصر حتى الساعة 10 تقريبا، فجريت على الخيمة لأحضر شنطتي.
ذهبت إلى مكان دورات المياه، مدخل تأمين المنوفية لكي أشارك ولكن لم استطع الوصول، حيث أصيب من كان بجانبي في رأسه واستشهد، فنزلت بسرعة منبطحا على بطني وراء خيمة أمام مبنى الحمامات فاستهدفوا المكان فنزلت أكثر انبطاحا على الأرض وكان الرصاص في أدنى مستوى له، وكان يخترق الجدار وكان فتات من الجدار ترد فتخترق جسدي من شدة الضرب..
وكان هناك شخص آخر يقف أمام مدخل دورات المياه، أصابته رصاصة في صدره وظل ينزف طيلة الضرب ولم نستطع أن ناخذه للمستشفى، وزحف ما يقرب من 5 متر وفارق الحياة، وبعدها أردت أن أصور الأحداث ولكن أطلق الرصاص علي، فانبطحت مرة أخرى أرضا، وظللت أمشى منبطحا حتى وصلت في حماية جدار، ولم يتوقف الضرب، تركت المنطقة، حتى وجدت طفلا يبحث عن والده، فأرسل له رسالة من هاتفي، وظل معه حتى نلقاه، ثم ذهبت إلى غرفةالتوثيق، كان الجميع لديه أمل في انسحاب الشرطة، وأن الوضع سيبقى على ما يرام وقت العصر، كان يأتي إلى مكتب التوثيق كثيرون بصور وفيديوهات لتوثيق الأحداث، ورأيت كاميرا لشهيد، وقابلت فتاة طلبت مني مساعدتها في حفظ فيديوهات لها، وفي اليوم الثاني شاهدت فيديو لقنصها على الجزيرة.
بلغ الضرب أشده بعد صلاة العصر، فكان الضرب يأتي من كل جانب وشاهدت الكل يتجه إلى المستشفى، وجلست أنا والطفل على باب المركز الطبى “مستشفى رابعة”، وتوقعنا أنها أأمن مكان، وشاهدنا نارا شديدة تخرج من المستشفى الميداني والمسجد وسمعت دوي انفجارات شديدة وكثيرة كانت تخرج من الدبابات، وهنا الساعة 4.45 بعد العصر تقريبا وبدأ الضرب على المركز الطبى وسقط أكثر من 50 شهيدا على باب المركز الطبي وهنا فقدت الطفل الذي كان معي.
نزلت إلى بدروم المركز الطبي وكان معي ما يقرب من 500 أخ وأخت وكان يتسرب لنا الغاز وقضينا ما يقرب من ساعتين إلاربع حتى أتى ضابط يحمل رشاشا وقال “دقيقتين وهنقتحم المكان مش عاوز أشوف حد منكم هنا” وخرجنا.
والله ما شاهدتموه وما ستشاهدوه وما حكى لكم وما سيحكى لكم لا يعبر إلا عن 10% فقط مما عشناه في فض رابعة”.
محمد علي
يقول: “أنا نزلت من البيت يوم الفض الساعة ٧ وقت لما بدأ الفض ووصلت مسجد السلام، وانطلقت في مسيرة متجهة إلى الميدان ووصلت الميدان قبيل الظهر، وكان مكاني عند عماره المنايفة، ووقفت داخل العماره في الدور الأرضي نبني جدارا بالرصيف، كنا بنصد الهجوم بالطوب فقط، وكان الشباب يجهزون بعض المولوتوف ويلقونه على المدرعات التي لم تكن تتأثر أبدا منه.
وبعد فتره توجهت إلى المنصة ومنها إلى المستشفي الميداني، وفي طريقي وأمام بنك مصر إذا بأحد المعتصمين يدفعني بشدة لأسقط علي الأرض ويطلب مني أن ازحف علي بطني لمسافة وقبل أن أرفع رأسي لأسأل عن السبب إذا بيشخ كبير أبيض اللحية يسير خلفي في نفس المكان الذي زحفت فيه، وإذا برصاصه تخترق رأسه ويسقط مضرجا بدمائه، حاولنا سحب الشهيد ولكن لم نتمكن نظرا لشده الضرب، وتبين أن أحد القناصة متمركز فوق أحد البنايات، وعند مرور أحد المعتصمين أمام مداره يقوم بقنصه..
وبعد قليل سقط أحد المعتصمين بنفس الطريقة ثم حاولت التوجه إلى المنصة، ولكن طلب منا أن نعود إلى عماره المنايفة من جديد، وبالفعل عدت دون الذهاب إلى المستشفي لأتعرف على أحد الشهداء، وتمركزنا في الشارع الجانبي للعمارة نحاول صد الجرافات بالطوب فقط، وفجأة انهمر علينا الرصاص من إحدى الطائرات المحلقة فوق رؤوسنا من كل مكان وتساقط الشهداء، وكنت اسمع ازيز الطلقات؛ حتى إن إحداها سمعتها تمر بجانب اذني..
وانبطحنا أرضا لأن انهمار الرصاص كان من الطائرات والقناصة بشكل هستيري وسقط فوقي العديد من الشباب، وكانت أصوات قنابل صوت ضخمة تهز المكان بشدة، واقتربت القوات إلى العمارة وأوشكت على اقتحامها، وبدأ القاء قنابل غاز بشكل كبير جدا لا يحتمل وكان الرصاص ينهمر بجنون ونحن نحاول أن نتقدم إلى الجرافة والمدرعات لإيقافهم من الشارع الجانبي ولكن بدون جدوى.
وبعد لحظات تم هجوم كاسح على العمارة وتوجهت الجرافات في اتجاهنا وفي هذه اللحظة أصبت بخرطوش في أحد ذراعي وسقطت مغشيا علي بعد ضرب غاز اعتقد أنه سام وليس غاز مسيل للدموع، أفقت ووجدت نفسي في الشارع الخلفي لعمارة المنايفة حاولت أن استجمع قواي وأن أكمل ولكني وجدت بعض الشباب المعلق على السقالات يحاول النزول من العمارة.
وقامت المدرعات بجرف كل ما كان في الشارع الجانبي لعمارة المنايفة وبدأ الضباط يستعرضون نصرهم من فوق سطح العماره ويطلقون النار بشكل عشوائي من أعلى العمارة، وبعد فتره فقدت الوعي من جديد وأفقت في إحدى الصيدليات المجاورة للميدان.
هذه هي شهادتي على يوم الفض وما رأيته”.