شبكة رصد الإخبارية
follow us in feedly

متى يثور المصريون مجدّدًا؟

متى يثور المصريون مجدّدًا؟
تعيش قوى سياسية كثيرة، داعمة للثورة وتغيير النظام في مصر، حالة من فقدان التوازن، أو إنكار للواقع تحت ضربات الاستبداد الحاكم، وتتبنى كثير منها رؤى جزئية لحجم الأزمة التي تعيشها البلاد وسبل الخروج منها، وتغيب بوادر أي إجماع على

تعيش قوى سياسية كثيرة، داعمة للثورة وتغيير النظام في مصر، حالة من فقدان التوازن، أو إنكار للواقع تحت ضربات الاستبداد الحاكم، وتتبنى كثير منها رؤى جزئية لحجم الأزمة التي تعيشها البلاد وسبل الخروج منها، وتغيب بوادر أي إجماع على فهم ما حدث، وأسباب الهزائم التي منيت بها الثورة، بل يغيب التوافق على معنى الثورة نفسها، وما تبقى منها.

تحت ضغوط الواقع المؤلم والاحتقان الأيديولوجي والعصبيات السياسية، يفضل كثيرون الهروب من أي محاولة جادة لقراءة الواقع، إلى درجة أن بعضهم يلجأ إلى الدعوة إلى الثورة عدة مرات في الشهر الواحد، كما الحال في بعض أوساط التيار الديني، ويلجأ آخرون إلى التقوقع على الذات أو الهروب أو الدعوة لانتظار فرص أخرى للتغيير، من دون الدخول في نقاش جاد على ما يجب انتظاره أو فعله، في الوقت الراهن.

ويشبّه بعضهم الثورات بالأمواج، تخضع للمد والجذر، موجات ثورية تتبعها أمواج، أو ثورات مضادة، وهذا يعني أننا أمام فعل تاريخي يصعب التسريع، أو التنبؤ به، يستغرق سنوات، ولا يسير على وتيرة واحدة. وعلى الرغم من استحالة التنبؤ بالثورات، فقد ربطها من درسوها بظروف تتوفر عادة في المجتمعات التي تعرفها، ظروف كبرى، قد لا تتكرر بصورة مطبقة في كل مجتمع عرف الثورة، لكنها تتكرر بشكل عام وتشكل أسبابا رئيسية للثورة.

وقبل تناول تلك الشروط، يجب الإشارة إلى أن الثورات ليست كلها سواء، وهناك من يفرّق بين ثورات الماضي التاريخية الكبرى، كالثورات الفرنسية والروسية والصينية، وثورات الحاضر الصغرى الديمقراطية السلمية، كثورات الربيع العربي.

في الماضي، كانت الثورات تستغرق عقودًا وحروبًا وملايين الأرواح، كانت دموية وفوضوية ومسلحة، ولم يكن يشعر بها العالم كل لحظة، وعلى الهواء مباشرة، فقد أسهمت وسائل الإعلام وتطورها ومؤسسات المجتمع الدولي في صعود ما يمكن تسميتها الثورات الديمقراطية أو السلمية، وهي ثورات أقل عنفوانًا، ترتبط أساسًا بالأفكار الليبرالية والبلاد القريبة من المعسكر الغربي، وتقوم على المطالبة بالإصلاح الديمقراطي والتغيير السلمي وإجراء الانتخابات، تقوم على رفع شعارات الحرية والليبرالية. وللأسف، قد يسهل سحقها ما لم تحصل على دعم قوي من الجيران والمجتمع الدولي.

كانت ثورات الربيع العربي من ذلك النوع السلمي المحدود، نجح بعضها جزئيًا، لما دعمتها المجتمعات الغربية، كما هو في الحال في الأنظمة القريبة من الغرب، كمصر وتونس، وعانت كثيراً في الدول البعيدة عن الغرب، مثل ليبيا وسورية، حيث تم تسليح الثورات بالأساس. وتبقى اليمن حالة وسط، لقربها الشديد من دول الخليج.

وفي مقدمة أسباب قيام الثورات، أولًا: تقوم الثورات في النظم الاستبدادية الهرمة المترهلة؛ حيث فرص التغيير السياسي الجاد من داخل النظام معدومة، والنظام المترهل يعاني من صعوبة التحكم في نخبه المختلفة بعد سنوات من الحكم القمعي والاستبدادي وشيخوخة النظام. ثانيًا: انقسام النخبة ضروري للحراك الثوري ونجاحه؛ فالجماهير تحتاج إلى دعم من النخب الثورية والسياسية، وخصوصًا الأمنية منها. الثورات السلمية لا تهزم الجيوش، بل تنتظر دعمها، وذلك بإقناعها بسلمية أهداف هذه الثورات، أو من خلال إشعارها بأن المستقبل لم يعد بيد النظام القديم. ولولا دعم الجيشين، التونسي والمصري، الثورة في البلدين في بدايتها، لما نجح الشعبان في إطاحة زين العابدين بن علي أو حسني مبارك. ثالثًا: لا تحدث الثورات في المجتمعات شديدة الفقر أو الثرية، هي تحدث غالبًا في المجتمعات التي تمر بفترات تحول اقتصادي كبيرة وصعبة، عندما يشعر الناس بالتحسن النسبي في أوضاعهم وإمكانية التغيير إلى الأفضل، لو تخلصوا من النظام المستبد المترهل. أما القابعون في الفقر فلا يفكرون في الثورة، وكذلك الأثرياء. الفقر الشديد يفقد الناس الثقة في المستقبل، والثراء يشعرهم بالركون والطمأنينة، أما التحول الاقتصادي غير المكتمل فيفتح الباب للتغيير. رابعًا: تحتاج الثورات إلى دعم الطبقة الوسطى، وهي طبقة أنانية صبرها قليل في العالم كله، فالناس لا تحب الثورة، وما تأتي به من فوضى وضبابية وتحولات هائلة، والأثرياء لا يحتاجون إلى الثورة، والفقراء قد لا يمتلكون رؤية للتغيير. أما الطبقة الوسطى فأوضاعها تسمح بالصبر على الثورات، والتطلع إلى مستقبل أفضل، لكنها ليست بالوعي أو الصبر الكافيين، هي كبقية طبقات المجتمع تم تجهيلها وتخويفها.

لم تدعم الطبقة الوسطى المصرية الثورة سريعًا، وظلت حزينة على مبارك، ثم دعمت ثورة يناير بمرور الوقت، وبسبب دعم الجيش نفسه للتغيير قبل يوليو 2013. لذا، انخرطت الطبقة الوسطى في الانتخابات، ودعمت القوى السياسية الجديدة، لكنها ظلت رجعية قليلة الوعي، وهو ما لم يدركه قادة “الإخوان المسلمين” في مصر، والذين ظلوا يرسخون قيم الاستقرار لدى الطبقة الوسطى من دون تقديم إنجازات تذكر، أو بناء تحالف سياسي متماسك، أو امتلاك القوى السياسية والإعلامية القادرة على تشكيل الرأي العام. لذا، تمكنت الثورة المضادة المتحكمة في دوائر المال والإعلام والمؤسسات الأمينة في تخويف الطبقة الوسطى مجدداً من الثورة. خامساً: تحتاج الثورات إلى دعم دولي وإقليمي، حتى لا يتم القضاء عليها، دعم إيران وروسيا بشار الأسد حوّل الثورة السورية حرباً أهلية، ودعم الغرب ثورتي مصر وتونس أطاح مبارك وبن علي، ودعم دول في الخليج الثورة المضادة في مصر جاء بالانقلاب العسكري وقسّم ليبيا، ويرى بعضهم أنه ساهم في وصول الحوثيين إلى الحكم في اليمن.

سادسًا: ليست الثورات عملًا طبيعيًا، أو آليًا يحدث بالضغط على زر ما. الثورات عمل بشري صعب، يحتاج إلى قيادة وفكرة توحد الناس. وقد تبقى الفكرة عامة بعض الشيء، فالثورات لا تمتلك خططًا مفصلة لطرق الحكم، فكيف يطور من لم يحكموا قط خططا لحكم البلاد، وهي أيضا في حاجة لقيادة موحدة نسبياً، لكي تقود الناس في عملية التحول الديمقراطي الطويلة والصعبة للغاية، فلو انقسم الثوار على أنفسهم، كما حدث في مصر، انهزمت الثورة.

دعم العالم ثورة مصر في البداية، لأنها رفعت شعارات فضفاضة إيجابية، كالعيش والحرية والعدالة الاجتماعية، ولأنها لم تعرف قيادة واحدة تخيف الخارج، أو يخشى من اختطافها الثورة في اتجاه سلبي. لكن، بمرور الوقت، تحولت تلك الخصائص إلى نقمة، خصوصًا بعد أن فشل المصريون في التوحد حول حد أدنى من القيادة، أو القيم المشتركة وطغيان الصراع الديني العلماني، وانقسام الثوار بين التيارات والأيديولوجيات والأحزاب والفصائل.

اكتملت، في 3 يوليو 2013، عناصر الثورة المضادة في مصر، ظهرت قيادات جديدة شابة للنظام الاستبدادي، وخصوصًا في المؤسسة الأمنية. شخصيات ليست معروفة، ولا تحمل أعباء الماضي استطاعت توحيد قادة الجيش والمؤسسات الأمنية خلفها، وتحالفت مع قوى النظام الإقليمي المضادة للديمقراطية والثورات. ومع الطبقة الوسطى التي تم تخويفها، واستغلت انقسام الثوار وغياب الفكرة أو الأيديولوجية أو القيادة التي توحدهم، ووعدت الناس بالتغيير الإيجابي وبإعادة حركة الاقتصاد وبقيم الاستقرار والانضباط، فانتصرت الثورة المضادة، وانهزم شركاء يناير.

لا يكفي القمع الهائل الذي يمارسه قادة الانقلاب العسكري والثورة المضادة، وحده، لتغيير مقادير الأمور، فثورة يناير حدثت، وقد لا تشهد مصر ثورة كبرى أخرى خلال عقود، لكنها قد تعرف مزيدًا من الشد والجزر. قد ترى موجات ثورية صغيرة جديدة، أو هزات ارتدادية من توابع زلزال يناير، تطالب بالعودة إلى مبادئ يناير. ولكي تعلو هذه الموجات فهي تحتاج إلى أكثر من توفر نظام استبدادي جديد، هي تحتاج لانقسام داخل نخبه الأمنية والاقتصادية، وتخلّي بعض داعمي الانقلاب العسكري الخارجيين عنه، ولفشل مساعيه الاقتصادية، أو تراجع عوائدها بشكل يصعب معه خداع الناس. هي تحتاج، أيضًا، إلى وحدة الثوار حول قيادات وأفكار جديدة أكثر تماسكًا هذه المرة، كما تحتاج للوصول إلى الطبقة الوسطى وطمأنتها وإشعارها بأن هناك حياة أفضل تنتظرها، وليس العنف والفوضى والفراغ.

ليست هذه دعوة للقنوط، لكنها دعوة للسير على الطريق الصحيح والإعداد الجاد لموجة ثورية جديدة، بالتقريب بين القوى الثورية حركيًا وفكريًا، وطمأنة الطبقة الوسطى وإشعارها بأن النظام القائم هو من يهدر الفرص، وأن الثورة لا تقودها إلى المجهول، وانتظار انفراجة في النظامين، الإقليمي والدولي، أو تحولات اقتصادية ضخمة، وعدم التسرع في القنوط أو قطف الثمار.



تنفيذ و استضافة وتطوير ميكس ميديا لحلول الويب تنفيذ شركة ميكس ميديا للخدمات الإعلامية 2023