الدخول في الإسلام ليس مجرد كلمة تقال، “الشهادتين”، بل هناك تبعات وتكاليف على كل من يعتنق هذا الدين، تتلخص في الأوامر والنواهي التي جاءت في القرآن الكريم أو الأحاديث النبوية الصحيحة. (افعل كذا ولا تفعل كذا)
والأوامر والنواهي منها ما هو قطعي الدلالة (مثل الأمر بالصلاة والزكاة والصوم، والنهي عن الفاحشة والخمر والميسر)، ومنها ما هو ظني الدلالة (مثل هل المسح على الرأس في الوضوء يكون على كل الشعر أم بعضه).
وحتى نضع الأمور في نصابها، فإن إنكار المسلم لأي أمر أو نهي قطعي الدلالة هو “إنكار لمعلوم من الدين بالضرورة”، وهو مما يخرج المرء من الإسلام، أي أنه عمل من أعمال الكفر!
ومن الأحاديث الصحيحة قطعية الدلالة، حديث عن قتال المسلمين لليهود قبل قيام الساعة، فقد ورد عن أبي هريرة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: “لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود فيقتلهم المسلمون حتى يختبئ اليهودي من وراء الحجر والشجر فيقول الحجر أو الشجر يا مسلم يا عبد الله هذا يهودي خلفي فتعال فاقتله إلا الغرقد فإنه من شجر اليهود” رواه مسلم.
وكما بينَّا فإن إنكار مثل هذه الأحاديث قطعية الثبوت والدلالة من أعمال الكفر التي تخرج المسلم من الملة!
وعليه، فإن محاولة توصيف الصراع الجاري في المنطقة على أنه صراع مصالح فقط، بحذف متعمد للبعد الديني والأيديولوجي هو محاولة نصب كبرى على أبناء هذا الدين، فالمسلم الذي يسمع آيات القرآن الكريم التي تحض على الجهاد في سبيل الله، ومع ذلك يرى بلاد المسلمين تعاني تحت الاحتلال ويتجاهل ذلك، ولا يعتبر نفسه معنيًا بالأمر، إنما انسلخ عن دينه دون أن يشعر، وتحول إلى مسلم صوري، بالاسم فقط، كزجاجة مكتوب عليها “عصير”، لكنها خففت بالماء حتى صارت بلا لون ولا طعم ولا رائحة!
***
لكن للأسف، ليس كل المسلمين الموحدين الذين يشهدون ألا إله إلا الله وأن محمد رسول الله يتبنون الرؤية الإسلامية لتوصيف الصراع!
هناك وجهتا نظر لسبب الصراع وأصل النزاع في هذه المنطقة:
1- فريق يرى أن أصل الصراع في المنطقة هو زرع كيان صهيوني احتلالي استيطاني كولينالي غريب عن نسيج المنطقة “إسرائيل”، في فلسطين المحتلة بالقوة المسلحة! وأن تحرير فلسطين هو الحل للصراع الدائر في المنطقة.
2- وفريق يرى أن الصراع الدائر في المنطقة سببه رفض حركات المقاومة في فلسطين، وعلى رأسها حركة المقاومة الإسلامية حماس، وجماعة الإخوان المسلمين في مصر، القبول بالأمر الواقع الجديد المتمثل في وجود كيان احتلال صهويني في فلسطين المحتلة “إسرائيل”.
الفريق الأول يراه صراعًا دينيًا يستهدف هدم المسجد الأقصى وبناء الهيكل المزعوم، والفريق الثاني يرى أنه يجب التعايش بين الديانات الثلاث، وهو ما يعني ضمنًا القبول بالمحتل، واقتسام الأرض بل المسجد الأقصى بين الجميع!!
***
وهذا المنطق الأخير شديد التفاهة شديد السذاجة، لم يقنع الغالبية العظمى من شعوب الأمة المسلمة الغيورة على دينها وعرضها وأرضها ومسجدها، فكان لا بد لرعاة هذا الكيان الاحتلالي “إسرائيل” من إسكات صوت الأمة بالقوة المسلحة.
وقد تسنى لهم هذا أول الأمر بإحداث انقلابات عسكرية موالية للغرب في الدول العربية المحيطة بإسرائيل بالتزامن مع إعلان قيام ما يسمى بدولة إسرائيل؛ وبالذات في دول الطوق، مصر (عبدالناصر 1952 و1954) وسوريا (شكري القواتلى وحسني الزعيم 1947 و1949) وغيرهما من الدول العربية (نظام ملكي عسكري في إمارة شرق الأردن، عبدالسلام عارف وعبدالكريم قاسم في العراق، القذافي في ليبيا.. إلخ).
ثم انتقل الغرب من مرحلة منع شعوب المنطقة من الفتك بالدويلة الجديدة في بدايتها، وبعد اتساع هذه الدويلة وامتدادها ثلاث مرات في حرب 1967، لجأ الغرب إلى توطيد أركان هذه الدويلة، بتوقيع الأنظمة الرسمية المستبدة اتفاقيات سلام مع هذه الدويلة، كي تكتسب صفة الشرعية، ويصبح وجودها طبيعيًا، وهو ما حاول الغرب وإسرائيل فعله عبر عقود عبر ما يسمى بـ”التطبيع”.
ومن أهم علامات التطبيع، اعتبار إسرائيل دول صديقة والتعامل معها على هذا الأساس، سياسيًا واقتصاديًا وإعلاميًا، والدخول معها في مفاوضات، تختزل القضية في مسألة حدود وليس مسألة وجود! وفي المقابل يتم تجريم العمل المقاوم واعتباره ضربًا من الإرهاب، تتعاون كل من الجيوش العربية الممولة من أميركا وإسرائيل في محاربتها وحصارها!
***
إن جماعة الإخوان المسلمين تمثل جهاز المناعة في جسد الأمة، وإضعاف جهاز المناعة هذا سينتج عنه انتشار لفيروس التطبيع مع إسرائيل، ليس على المستوى الرسمي فقط -وقد بدأ يحدث بالفعل منذ 1979- لكن أيضًا على المستوى الشعبي، الذي بدأ يتأثر بالفعل بالإعلام المتصهين، الذي يمتدح إسرائيل ويهاجم المقاومة ليل نهار، بل يعتبرها المسؤولة عن كل أزمة تعيشها مصر، بدءًا من أن سبب أزمة الطاقة في مصر تهريب الكهرباء إلى غزة (وهي كذبة انتشرت بشدة إبان حكم الرئيس مرسي) ومرورًا باتهامهم باقتحام السجون في 2011، وانتهاءً بتحميل حماس وكل أهل قطاع غزة المسؤولية عن كل حادث يقع ضد الجيش في سيناء أو حتى في العاصمة!
وعليه يمكن فهم القسوة الشديدة التي يتعامل بها الجيش المصري الذي تعود على مذاق دولارات المعونة الأميركية مع المقاومين المصريين الذين تعتبرهم إسرائيل الخزان البشري والعمق الإستراتيجي الذي يغذي المقاومة الفلسطينية ماديًا ومعنويًا. بل لقد انتقل الجيش المصري من اعتقال الإخوان في مصر إلى اعتقال المقاومين وهم في طريقهم للعلاج عبر معبر رفح، بعد أن كان يكتفي بالتعاون الأمني والاستخباري والإعلامي والسياسي والاقتصادي مع العدو الصهيوني!
لذا فلقد أبدت إسرائيل فرحة غير مسبوقة بالانقلاب العسكري الذي قام به الجيش على أول رئيس منتخب، وبما يقوم به الجيش لسحق جماعة الإخوان المسلمين، وقالت إن التعاون بين السيسي وإسرائيل لم يحدث حتى في أيام مبارك التي كانت تصفه “بالكنز الإستراتيجي”! كيف لا وقد هجر أهل سيناء خدمة لإسرائيل، وغير عقيدة الجيش من أن إسرائيل هي العدو إلى محاربة “الإرهاب”!! (جمعنا أشهر هذه التصريحات الصهيونية المؤيدة للانقلاب في مقال: إسرائيل طالبت الجيش بالانقلاب).
والسبب واضح، فجماعة الإخوان في مصر هي الكيان المنظم الأكبر وربما الوحيد الذي يعمل لتحرير كل أرض فلسطين، وتحرير المسجد الأقصى وعودة المسلمين إلى توحدهم مجددًا، في الخلافة الإسلامية، التي بشر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم. بينما بقية الجماعات الإسلامية غارقة في عمالتها للنظام، أو تهتم بأمور شكلية بعيدة كل البعد عن جوهر الإسلام!
لقد كان الإخوان أشجع من قاتل الصهاينة في حرب 1948، ودفعوا نتيجة ذلك قرارًا بحل الجماعة واعتقال أفرادها، والآن كل الجيوش العربية تحمي إسرائيل ولا تقتل إلا شعوبها، ومن يرفع شعار تحرير فلسطين يوصف بالإرهاب!
وعليه، فإن أنصار جماعة الإخوان المسلمين ومن يدور في فلكهم يصطدمون بمشكلتين كبيرتين:
أ- أنهم يصطدمون بمصالح دول كبرى مرتبطة بوجود هذا الكيان، وخصوصًا الولايات المحتلة.
ب- أنهم بالمقاييس المادية البشرية البحتة لا يملكون من الوسائل والأدوات -حتى الآن- ما يمكنهم من الحل وفق رؤيتهم “تحرير كامل فلسطين”.
***
إن محاولة سحق جماعة الإخوان في مصر لم تكن إلا خطوة تمهيدية ضد العمق الإستراتيجي للمقاومة، للشروع في مخططات تقسيم المسجد الأقصى في فلسطين زمانيا ومكانيا، ومن ثم هدمه!
يجب ألا نخلط بين مواقف الإخوان السياسية التي تخطئ وتصيب، أو بين أفرادهم الذين هم بشر ليسوا منزهين أو معصومين من ناحية، وبين وقوفهم في وجه الاحتلال عسكريًا وسياسيًا، بل أنهم الفصيل الوحيد الذي يحارب الاحتلال الآن، من ناحية أخرى!
لذا فلا عجب أن كل حلفاء إسرائيل قد رحبوا بانقلاب 2013 (الولايات المتحدة- إسرائيل نفسها- العلمانيين- السلطة الفلسطينية- الإمارات العربية المتحدة- عصابات محمد دحلان). ولا عجب أن الهتافات التي يرددها المقاومون في القدس هي ذات الهتافات التي كان يرددها إخوانهم المقاومون في رابعة العدوية، لن تركع أمة قائدها محمد!
ولا عجب أن كل العلماء الذي أيدوا الانقلاب يتماهون مع الاحتلال الإسرائيلي ويرفعون شعارات التعايش الزائفة، بينما كل العلماء الرافضين للانقلاب متمسكين بالرؤية الإسلامية الرافضة للاحتلال والمؤمنة بوجوب تحرير كامل فلسطين، وتحرير المسجد الأقصى!
إنها معركة عقيدة، وحرب على الدين، وليست مسألة حدود أو مسألة سياسة وانتخابات! فانظر في أي الفريقين أنت، هل مع الفريق (أي فريق) العامل لتحرير فلسطين وتحرير المسجد الأقصى، أم أنك من المؤمنين بعلاقة حسن البنا بالبنائين الأحرار “الماسونية”، وبأن الإخوان الذين تأسسوا في 1928 أسقطوا الأندلس منذ 800 عام، أو أن السيسي الذي صرح أنه لن يسمح بتهديد أمن إسرائيل هو الذي سيحرر المسجد الأقصى!