عندما تقرأ خبرًا في الإعلام مفاده “أن مجموعة إرهابية قامت بتنفيذ عملية إرهابية داخل إحدى المناطق السياحية مما أسفر عن مقتل عدد من السُياح” فهذا هو المعتاد في مثل تلك الأخبار، أما أن تقرأ خبرًا بأن “الدولة وأجهزتها الأمنية قاموا بتصفية عدد من السُياح في إحدى المناطق السياحية” فذاك هو العجب وعندها تكون المصيبة إذا كان الخبر صحيحًا.
هذا ما حدث بالفعل في مصر، فقد قامت الأجهزة الأمنية المصرية بقصف سيارات سفاري -تقلّ سُياحًا مكسيكيين- بصواريخ من طائرات أباتشي، وأسفرت تلك العملية عن مقتل ثمانية مكسيكيين وأربعة مصابين، بالإضافة إلى عدد من المصريين، ولم يتم الإعلان عن تلك الحادثة إلا بعد خمس ساعات من وقوعها، ويرجع الفضل في نشر تلك الحادثة إلى أن أهالي الضحايا المصريين قاموا بسرد وقائع الحادثة على مواقع التواصل الاجتماعي، بالإضافة إلى وجود عدد كبير من القتلى الأجانب.
تعامل الدولة المصرية مع الحادث كان مرتبكًا ومتباينًا؛ في بادئ الأمر أعلنت الشرطة المصرية عن مقتل ثمانية من الإرهابيين في هجوم شنته الداخلية والقوات المسلحة على وكر من الإرهابيين بالصحراء الغربية، وما إن تبين أن هؤلاء القتلى ليسوا إرهابيين وإنما هم سياح، أعلنت الداخلية أن هذا الفوج لا يحمل أية تصاريح لتلك الرحلة، فنشرت الشركة المسؤولة عن تلك الرحلة تصاريح تلك الرحلة التي تم استخراجها من شرطة السياحة، فأعلنت الداخلية أن تلك الرحلة كانت تسير في منطقة محظور السير فيها، فأعلنت الشركة أن الرحلة كان من ضمن أفرادها فرد أمن ودليل بدوي، وكلاهما يعلم مسار تلك الرحلة، كما أنه لا توجد أية لافتات تعلن أن تلك المنطقة محظور السير فيها، فضلًا عن أن عملية قصف سيارات السفاري تمت في وضح النهار في حوالي الساعة الثانية ظهرًا، وهذا ما أكده المصابون الأجانب، وصرحوا أنه لم يكن هناك أية تحذيرات سبقت عملية القصف، كل ذلك دفع الأجهزة الأمنية إلى إصدار بيان مساء ذلك اليوم بأنه تم قتل عدد من الاجانب والمصريين عن طريق الخطأ، وأعقب ذلك البيان زيارة محلب ووزير الصحة للمصابين بأحد المستشفيات صبيحة اليوم التالي.
الملفت أن وزارة الداخلية هي من تعاملت مع الإعلام والرأي العام في تلك الحادثة، وهذا ما أكده المتحدث العسكري في إجابته عن سؤال من “نيويورك تايمز” حين سُئل عن تلك العملية فقال: “عندما يتعلق الأمر بالسياح فإن الأمر يخص وزارة الداخلية وليس نحن. هذه الواقعة ليس لها أي علاقة بالجيش حتى ولو كان الجيش والشرطة نفذوا العملية سويًا. هذا هو النظام في هذا البلد وليس من حقك أن تشكك فيه”.
ونظرًا لأن جميع القتلى الأجانب من المكسيك، فقد كان تعامل الدولة المكسيكية مع الحادث في منتهى الجدية والحسم والشفافية، فقد عقدت وزيرة الخارجية المكسيكية مؤتمرًا صحفيًا لتوضح للرأي العام المكسيكي تفاصيل الحادث، وطالبت في الوقت ذاته الدولة المصرية بإجراء تحقيق عاجل لكشف ملابسات تلك الحادثة الأليمة، كما قررت السفارة المكسيكية بالقاهرة إلغاء الاحتفال بالعيد القومي، كما تم إيفاد وزيرة الخارجية إلى القاهرة وبصحبتها ذوو الضحايا والمصابين، وقد قرر الرئيس المكسيكي إرسال طائرة الرئاسة إلى القاهرة لنقل القتلى والمصابين، كل تلك الإجراءات تدل على أن المكسيك دولة تحترم شعبها وتعمل على خدمته في أي مكان على مستوى العالم، جدير بالذكر أن المكسيك كانت قد أعلنت رفع حظر السفر إلى القاهرة منذ شهر، بعدما فرضته منذ أحدث فض رابعة.
تعامل المكسيك مع الحادث أدى إلى مطالبة عدد من إعلاميي النظام المصري بتقديم اعتذار رسمي من الدولة المصرية، وصرف تعويضات مناسبة لذوي الضحايا والمصابين.
لن يتم غلق هذا الملف إلا بتقديم المخطئين للتحقيق والمحاسبة مهما كان وضعهم وثقلهم في الدولة المصرية، فمنذ أيام وقعت حادثة رافعة الحرم المكي مما أدى لوفاة العشرات واصابة أكثر من مائة مسلم، خلال أربعة أيام فقط أعلن الديوان الملكي نتائج التحقيق، واتخذ عددًا من الإجراءات بناءً على تلك النتائج، كان من أهمها: وقف تصنيف مجموعة بن لادن وعدم إسناد أية مشاريع جديدة لها ومنع سفر مسؤولي تلك المجموعة لحين انتهاء التحقيات وصرف تعويضات مناسبة لذوي الضحايا، فمتى يبدأ التحقيق ويحاسب أي مسؤول كانت له علاقة بتلك الحادثة وما سبقها من حوادث شبيهة.
هذه الحادثة تعيد فتح حوادث القتل والتصفية التي تقوم بها الأجهزة الأمنية، فلو لم يكن هناك قتلى أجانب في تلك الحادثة لكانت الأجهزة الأمنية اكتفت بتصريحها الأول وهو مقتل ثمانية إرهابيين بالصحراء الغربية، ولكن وجود أجانب أرغم الدولة المصرية على تغيير أقوالها واعترافها بأنهم قتلوا عن طريق الخطأ، وعليه فعلى الدولة المصرية أن تفتح تحقيقًا في تصفية عدد من المعارضين المصريين بأكتوبر والفيوم، وآخرها كان إلقاء طبيب من شرفة منزله بالمنوفية.
جاءت هذه الحادثة كاشفة لتعامل الدولة المصرية مع مواطنيها، فالمشكلة الكبرى أن الدولة المصرية أقرت عدة قواعد منذ الثالث من يوليو منها: أن أي إنسان في مصر مشبه به وما دام مشتبهًا به فيجوز التعامل معه بأي طريقة، وأن أي متهم مدان وعليه إثبات العكس، وأن الأجهزة الأمنية في مأمن ولن يمس أي فرد منها جراء تعامله مع أي إنسان مهما كان فعله، هذه القواعد جعلت الإنسان لا قيمة له وأنه لا يساوي عند الدولة المصرية سوى طلقة واحدة وربما أقل من ذلك.