بعد مرور بضعة أشهر من أحداث سبتمبر، ذهبت -بصفتي أمثل السيدات المسلمات في جامع بلدتنا في ولاية فلوريدا- إلى كنيسة؛ للمشاركة بلقاء نسوي تعارفي بين أعضاء عدّة كنائس بروتستانية من توجهات مختلفة.
أذكر أنه بعد انتهاء اللقاء، وقفت خارج القاعة أتحدّث مع راعية كنيسة كنت أحبها لأنها أبدت تعاطفًا شديدًا معنا كمسلمين بعد أحداث سبتمبر، ودعتني وقتها إلى كنيستها كي ألقي محاضرة عن الإسلام، كانت تعقّب على محاضرتي وعبرت عن سعادتها بأنني ذكرت أننا نؤمن بالله وليس مثل “هؤلاء” الذين يقدّسون، وتقريبًا يؤلّهون امرأة، على حد قولها، حاولت أن أعصر مخي وأستجمع كلّ قواي العقلية كي أعرف من كانت تقصد ولم أعرف، فسألتها ماذا تعني ومن هم الذين يعبدون “امرأة”؟
الكاثوليك، ألا تعرفين هذا؟
فقلت لها لا، هذه أول مرة أسمع فيها عن هذا.
بعد بضعة أشهر أخرى، ذهبت ومجموعة من المسلمين في بلدتنا الصغيرة، كي نحضر مؤتمرًا أقامته كنيسة البلدة ليتحدثوا فيه عن الإسلام، كان المحاضر غير مسلم، وشعرنا بأنه سوف يسيئ لنا فذهبنا كي نكون له بالمرصاد.
بعد أن لاحظ المحاضر أننا مسلمون ومعترضون على نصف محاضرته، قال لأحدنا -وكان يعلم أنه من أصل فلسطيني- بأنه يتعاطف معنا أكثر من وكلاء المافيا.
أي مافيا تقصد؟ سأل الفلسطيني.
الكنيسة الكاثوليكية، هم أساس المافيا العالمية وسيستولون على كنائس فلسطين.
تعجبت بشدة من هذين الموقفين، وبدأت محاولاتي بأن أفهم أميركا، وأفهم سرّ هذا الرأي بالكنيسة الكاثوليكية، علّني أستطيع الوصول لمعلومات تعينني خلال محاضراتي عن الإسلام والعرب.
تبدأ القصة منذ عدّة قرون؛ عندما بدأ الألمان والبريطانيون البروتستانت يهاجرون بأعداد كبيرة إلى العالم الجديد هربًا من اضطهاد الكنيسة الكاثوليكية لهم، حاملين معهم تعصّبهم ضد الكاثوليكية التي كانوا يعتبرونها صورة من صور “المسيح الدجال” و”عاهرة بابل” “قصة في الإنجيل ترمز إلى الإمبراطورية الرومانية إبّان تعذيبها للمسيحيين”.
وعندما زاد عدد المهاجرين الكاثوليك إلى أميركا في القرن التاسع عشر، بدأ البروتستانت يشعرون بالقلق بسبب اعتقادهم أن ولاء الكنيسة الكاثوليكية الأول هو لبابا الڤاتيكان ومن ثم سيكون ولاء الأميركي الكاثوليكي للكنيسة في روما، إضافة لانتشار الكثير من القصص والشائعات التي كانت تتحدث عن فساد أخلاقي لأعضاء الكنيسة الكاثوليكية وبالتزامن مع نشر كتاب ذاع سيطه في أميركا آنذاك.
وعلى الرغم من اكتشاف أن الكتاب مفبرك، لكن الضرر الذي سبّبه كان كبيرًا؛ حيث إنه أسهب في نشر صورة نمطية سيئة عن الانحلال الأخلاقي للرهبان والراهبات مع أطفال، ادّعى الكتاب أنهم دفنوا جثثهم في أقبية الكنائس.
لكن أكثر التخوف من الكاثوليك، كان له علاقة بالهجرة والتنافس على الوظائف وفرص العمل، أي أن الخوف كان اقتصاديًا لكنه تلوّن بلون الدين لتغطية سر المخاوف الماديّة.
كما كان هناك خوف ثانوي جانبي؛ وهو أن للكاثوليك عادات وطباعًا مختلفة ربما تُغيّر من طبيعة الحياة التي اعتاد عليها الأميركيون، وكثيرًا ما كان ينزعج البروتستانت من المهاجرين من أيرلندا؛ بسبب حبهم لشرب الكحول مثلًا.
وفي القرن العشرين، بدأ الخوف من الكاثوليك يأخذ صورة أخرى؛ وهي صورة سياسية، بدأ البروتستانت يروّجون بأن الكاثوليكية تتناقض مع مبادئ الديمقراطية وأن المدارس التي تتّبع الكنيسة تمنع الكاثوليكي أن يكون مواطنًا مخلصًا لأميركا ولدستورها.
ولك أن تتخيل طبيعة ونوعية النقاش في أميركا عام ١٩٦٠ عندما قرر جون كنيدي الترشح لمنصب رئيس الولايات المتحدة الأميركية ليكون في حال انتخابه أول رئيس أميركي كاثوليكي، كان معظم الهجوم عليه يتركز حول مقولة “بابا الڤاتيكان سيحكم أميركا” وأن مرجعية الرئيس في البيت الأبيض ستكون روما وليس الدستور الأميركي.
ينبع هذا الخوف من إيمان الأميركي بالدستور الذي يفصل الدين عن السياسة، ليس لأن الناس في أميركا أقل تدينًا من شعوب أخرى وبحاجة إلى دستور كي يضمن لها هذا، بل بالعكس؛ فالهدف من فصل الدين عن السياسة في الدستور الأميركي كان لحماية الدين من سيطرة الحكومة عليه وليكون الناس أحرارًا في درجات وأنواع تديّنهم.
فاز جون كنيدي في الانتخابات الرئاسية وأصبح أول رئيس كاثوليكي في الولايات المتحدة، ولم يحد عن مبادئ الدستور الأميركي ولم يحكم بابا الڤاتيكان أميركا.
تذكّرت كل هذا عندما شاهدت، هذا الأسبوع، آلاف الأميركيين يحتفلون بزيارة البابا لأميركا؛ حيث ألقى خطبة بمجلس الشيوخ الأميركي وحثّ نواب الشعب على رفض تمويل الحروب وبيع الأسلحة، وقال بكل جرأة وبطريقة غير مباشرة بأن كل نائب يسهم في بيع الأسلحة يده ملطخة بالدماء.
وتذكرت كل هذا أيضًا بعد قصة الطالب المسلم أحمد، وكيف تعرّض للاضطهاد بسبب ديانته، وكيف نواجه، نحن الأميركيين المسلمين، موجة من الإسلاموفوبيا أو الخوف غير المبرّر من الإسلام.. وكيف نُتّهم بأن الدين الإسلامي يخالف مبادئ الديمقراطية والحرية والدستور الأميركي.
وكيف نُتّهم أيضًا بأننا نريد فرض الشريعة على الأميركي غير المسلم.. وكيف أننا لا يمكن بأن نكون مواطنين مخلصين لأميركا.. وكيف يتعرّض أوباما لهجوم حاد كونه مسلم ولكنّه يخفي هذا.. وكيف وكيف وكيف..
تذكرت أيضًا كيف قالت سيدة لابن أخي المولود في أميركا وهي تحلق شعره، عندما كان في السابعة من عمره، بأنه سيكون رئيسًا لأميركا..
تذكرت كل هذا لأنه، في زمن غير بعيد من الآن، سيحلف مسلم أو مسلمة أميركية اليمين كرئيس أو رئيسة للولايات المتحدة الأمريكية..
وإنّ غدًا لناظره قريب…