الثورات العربية منذ عام ألفين وأحد عشر لها بنية واحدة على اختلاف مآلاتها، أفراد يقتنعون بفكرة، فيرتجل كل منهم سلوكه بناء على قناعته تلك، فيصير مجموع ارتجالاتهم متناسقا من دون تنسيق، منظما من دون تنظيم. وحين تكون الفكرة قادرة على الحشد، فإن أية قوة جبرية للدولة الرسمية تنهزم أما الأعداد، فيصبح سلاح الشرطة أو الجيش بلا أثر.
انظر اليوم إلى الانتفاضة الفلسطينية وقارنها بالثورات العربية عام 2011، مقاومة جنود الاحتلال بالسلاح الأبيض قرار فردي، كل من يقوم بعملية من هذا النوع يرتجل موعد نزوله إلى الشارع ، ويرتجل نوع سلاحه، المتوفر في الأغلب في مطبخ بيته، ويرتجل هدفه، أعني أنه لا ينسق مع آخرين ولا يرتب معهم هذه العملية، ما يجعل كل أجهزة الأمن التابعة للاحتلال أو المتعاونة معه، عاجزة تماما عن توقع مكان العملية وزمانها وشكلها وشكل منفذها، فلا تستطيع منعها أو الوقاية منها. كذلك، فإن الفردية المطلقة لهذه العمليات يجعل ضغط إسرائيل على السلطة الفلسطينية أو على الفصائل بلا معنى، لأن الفصائل والسلطة أيضا في حالة عجز كامل عن وقفها أو التحكم في وتيرتها أو حتى التنبؤ بها.
هذه الارتجالية الفردية، تحولت من حدث إلى فكرة، وشاعت، فتكررت الارتجالات، فأشبهت الحربَ الشعبية، ولكن بلا قادة تستطيع إسرائيل اعتقالهم أو استمالتهم، وبلا تنظيم تستطيع إضافته على لائحة الإرهاب.
إن جل ما تستطيع إسرائيل فعلَهُ أو أي جهة متعاونة معها هو تغيير اقتناع الفلسطينيين بهذه الفكرة، لذلك ستحاول إسرائيل بناء المستوطنات أو التظاهر بأن العمليات لا تؤثر فيها، أو ستوعز لحلفائها والمتعاونين معها من ساستنا إلى بث رسائل تثبيطية مفادها أن لا جدوى، أو استثارة خلاف فلسطيني فلسطيني عنيف لينقسم الناس.
في كل حالة من هذه الحالات، تلجأ إسرائيل لخوض المعركة على جبهة وعي الفلسطينيين وقناعاتهم، لأنها عاجزة عن كسب المعركة على الأرض، هي تفشل في كسر قدرتنا المادية على الفعل، فتحاول تشويش رغبتنا في الفعل، تفشل في لإجبار، فتحاول الخداع أو”الإقناع”.
وإنك لو دققت في التاريخ الفلسطيني المعاصر، لوجدت أنه،في الانتفاضتين السابقتين، لم تكن إسرائيل قادرة على كسرهما إلا بالاستعانة بفلسطينيين وبتقديم تنازلات لهؤلاء الفلسطينيين حتى يقنعوا بها المنتفضين بالهدوء، فينقسم الناس.
الانتفاضة الأولى لم تنته إلا بوعد إسرائيل لمنظمة التحرير بالاستقلال خلال خمس سنوات، ولو لم تقبل المنظمة هذا الوعد ولم توقع اتفاقية أوسلو لربما لم تقف تلك الانتفاضة.
والانتفاضة الثانية توقفت بعد تغير في القيادة الفلسطينية، حيث أصبح الخطاب الفلسطيني الرسمي يحض الناس على المسالمة وتسفيه جدوى المقاومة العنيفة، مرة أخرى، مقابل وعد بالاعتراف الدولي ثم الاستقلال.
انظر الآن إلى الشبه بين بنية هذه الانتفاضة، بل والانتفاضتين السابقتين، وبين بنية الثورات العربية عام 2011:
في مصر وصلت فكرةٌ عبر شاشات الفضائيات والمساجد والمقاهي والكنائس والشوارع، مفادها أن المصريين قادرون على أن يفعلوا ما فعله التونسيون قبلهم. ودعت مجموعات من الشباب إلى التظاهر، فارتجل ملايين الأفراد، كل على حدة، قراره بالمشاركة. كل امرئ من هذه الملايين نزل وحده، لم ينسق أو يرتب مع تنظيم كبير، ولا كان له قائد غير نفسه، ولم يكن أحد سواه يعلم في أي ساعة سيخرج إلى الشارع أو في أي ساعة سيعود، تماما مثل الشباب الذي يقومون بعمليات المقاومة الفردية بالسلاح الأبيض في فلسطين اليوم، لا توجد جهة أو منظمة مطلعة على نوايا الأفراد المشاركين، سرية نواياهم، كأفراد، مطلقة، وعلنية نواياهم، كمجموع مطلقة أيضا، يعرف العالم كله أن مصريين كثرا سيشاركون في أول مليونية دُعي إليها في يناير 2011 ولكن لم يكن أحد يعلم من بالضبط من المصريين ينوي المشاركة فيها وفي أي مدينة أو قرية أو حي أو شارع بالتحديد.
وانظر أيضا إلى الشبه بين ردود أفعال دولة مبارك وردود أفعال الاحتلال الإسرائيلي:
بعد عدة محاولات فاشلة لإجبار الناس، بالشرطة ثم بالمدرعات، وفي حالة مصر، بالبلطجية على ظهور الجمال، تدرك الدولة أن الوسيلة الوحيدة هي شق صفوف هؤلاء الناس، ولا يمكن شق صفهم إلا بتحديد قيادات لهم ثم زرع الانقسام بين هذه القيادات، وتقديم الوعود لها بما يقنع أعدادا متزايدة من الناس أن أهدافهم صارت في متناول اليد. فإن كانت إسرائيل وعدت الفلسطينيين في أوسلو بالاستقلال، وانتهي الأمر بانقسامهم، كذلك وعدت الدولة العميقة في مصر الثوار، علمانيهم وإسلامييهم، بالحكم، فانقسموا على أنفسهم.
ومن يصدق وعدا تقطعه أجهزة القمع على نفسها بأنها ستكون ديمقراطية، كمن يصدق وعدا أن إسرائيل ستنهي احتلالها طوعا. والمقصود أنه في الحالتين، حالة إسرائيل والنظام المصري، القامع يعجز في مجال القوة المادية، فيحاول الخداع واللإقناع والتقسيم، بحيث لا يُهزم الثوار إلا بالثوار، ولا يخذل العزل إلا العزل.
وحتى في البلدان التي شهدت حروبا أهلية، والتي لم يكن فيها إجماع ضد نظام الحكم لأسباب طائفية أو قبلية أو أخرى متعلقة بالسياسة الخارجية والصراع العربي الإسرائيلي، أدى القمع المتزايد الذي تقوم به أجهزة الدولة، والقسوة المجانية وغير المفهومة، من ذبح الأطفال واغتصاب النساء سرا وعلنا وأمام أهلن، وقصف المناطق المدنية بالطائرات والصواريخ وقتل المعتقلين من التعذيب والجوع وغير ذلك، إلى بناء ذلك الإجماع الذي لم يكن موجودا أول الأمر.
ولكن بدلا من أن ينزل الناس أفرادا أو في مجموعات صغيرة إلى ميادين التظاهر، نزلوا أفرادا أو في مجموعات صغيرة إلى ميادين الحرب. وبدلا من تحويل الحشود العزلاء الكبيرة إلى خلايا مسلحة صغيرة، صنع القمع حشودا كبيرة من الخلايا الصغيرة المسلحة، وظل عاجزا عن احتوائها، كعجز إسرائيل أو الدولة العميقة المصرية وغيرهما. وإن الزعم أن هذه المجموعات ما كانت لتتكون لولا تسليح قوى أجنبية لها لا يستقيم. لأن السلاح لم يخلق الناس الغاضبين الراغبين في حمله، ولأن الناس لا يعرضون أنفسهم للموت بمئات الآلاف لمجرد أن طرفا ما عرض عليهم تزويدهم بالسلاح.
أقول، حتى في حالات الحرب الأهلية، فإن قدرة الدولة الرسمية على القمع والإجبار قد اضمحلت، وما إن تقضي الدولة على خلية مسلحة من معارضيها حتى تنبت مكانها عشر أخر، ولا سبيل للتعامل مع هذه الخلايا إلا بالتعامل مع قناعاتها.
والخلاصة الأولى من هذا، أن العرب لم يعد من الممكن إجبارهم على شيء، ومن أراد أن يحصل منهم على شيء كبر أو صغر، عليه أن يعمل على إقناعهم.
والخلاصة الثانية أن الحكومات العربية أكثرها حكومات احتلال، تتعامل مع شعوبها وتتعامل شعوبها معها كما يتعامل الشعب الفلسطيني مع الاحتلال الإسرئيلي، وربما كان مرد ذلك إلى البنية الاستعمارية للنظام الإقليمي الذي أنشأ الدول العربية الحديثة وإسرائيل معا.
والخلاصة الثالثة، أنه بسبب كثرة عدد الناس، وقدرتهم على اتصال بعضهم ببعض، فإن الاستعمار لم يعد ينفع، فلا الدولة العربية الحديثة باقية، ولا دولة إسرائيل، لا شيئ يبقى إلا إذا اقتنع به الناس، فإن لم يقتنعوا فستسقط هذه الأشكال من التنظيم السياسي لترثها أشكال أخرى تكون مقنعة لأعداد كافية من الناس.
ربما لم يلاحظ العالَم السياسي بعد: العرب، والناس عموما، لم يعد من الممكن إجبارهم على شيء.