شهدت انتخابات السودان، في إبريل الماضي، كيف تفوق النظام الديكتاتوري على نفسه، حينما تبارى استباقًا إلى الفشل، وتنافس مع نفسه عليه. وها هي التجربة نفسها تنتقل إلى مصر، وتصبح مغالطة الواقع والتباهي بالإقبال المزعوم عصب العملية الانتخابية وسنامها.
انكشف الغطاء سريعًا في مصر، حينما انحسر الناس، ووجد النظام نفسه وحيدًا إلّا من حاشيته، فأصبح دور علماء السلطان تزكية النظام بالسند الإلهي المتمثّل في الملائكة، لكي يثبتوا للناس أنّ جنودًا لم يروها هي من تحيط وتدعم وتؤيد مؤتمرات قائمة معينة في انتخابات البرلمان المصري، كما صرّح أحمد عمر هاشم، أحد علماء الأزهر الشريف.
هذه هي الانتخابات التي تخشاها الدكتاتوريات، وتهفو إليها نفوس المعارضة، إلّا أنّ ضعف الحماس، وربما تلاشي الأمل بالوصول إلى نتيجة نزيهة لانتخابات نظام ينافس نفسه، ويفوز عليها من دون معارضة، حالت دون مداعبة تلك الأماني. لذا، جاءت مقاطعة الانتخابات، إحدى وسائل التعبير عن الرأي التي توعد حيالها إعلام نظام السيسي المقاطعين، وأخرجهم من الملّة الوطنية.
أكثر الفئات مقاطعة الشباب الذين يصعب جرّهم إلى مراكز الاقتراع للتصويت، وهم من أقاموا الثورة بقوة دفع ذاتية، قوامها العناد والصمود. أمعن الشباب في الهروب من العملية الانتخابية، بكل أشكالها واتجاهاتها، ونأوا بأنفسهم عن مهمة أن يكون صوتهم من بين أصوات تساهم في تشكيل وجه لا يحبونه لمصر. ووفقًا للمعطيات، أيضًا، فإنّه سيكون ذات الوجه مع مساحيق كثيفة، لا تنجح في أن تجعل من القبيح جميلًا، لكنها تضخم من العيوب نفسها. وبتنازلهم عن المهمة التي لم يجربوها غير مرة، تم بعدها الانقلاب على العهد الديمقراطي الذي اختاروه، يكونون قد تنازلوا عن أن يكونوا في زمرة المصوتين تصويتًا مكشوفًا.
ما حدث في هذه الانتخابات، وما صاحبها من تجاوزات وخروق، وما لوّث الأجواء من روائح تفوح؛ يُحدّثُ بالصوت العالي عن تعذّر صبغ هذه العملية بصفة النزاهة، بل يكشف الإحباط الكبير، بسبب إبعاد بعض القوى السياسية من المنافسة، وتهميش بعض الأحزاب العريقة. تم ملء هذا الفراغ بأحزابٍ، تم استيلادها من رحم النظام، ما جعل مسألة الهروب إلى الوراء بمسح دماغي لما يسمى انتخابات وشرعية، وتحول ديمقراطي سهلة جدًا.
ولكن، يبدو أنّ الأفئدة في اتجاه هروبي أمامي، باختصار الزمن وتجاوز الأزمة النفسية التي تتعرض لها مصر اليوم. وقد تكون العبرة في درس انتخابات 2010 في عهد الرئيس المخلوع حسني مبارك، وما شهدته من تزوير، لا تلبّسها، والسماح لها بالنفاذ من خلال الانتخابات المزعومة 2015.
يؤكد هذا الانشقاق عزلة النظام، وأنّه بلا قاعدة جماهيرية. وحتى الموجود من الداعمين فقدهم النظام ضمن شعبيته المؤقتة التي كان يجني ثمرتها أهل المال من المُستقطبين الجدد. كما فقد ركنه الركين، المتمثل في التعبئة الاجتماعية، بعد أن سئم الشعب الوعود الكذوبة. وللأمانة، لم يتم تهميش المطبلين كليًا. ولكن، تم الإبقاء عليهم ليتحملوا، نيابة عن النظام، وصمة الانقلاب العسكري على نظام ديمقراطي، قام على انتخابات شعبية.
قبل قيام ثورة 25 يناير، كانت المعارضة المصرية مصنوعة وباهتة، وبعد انتخاب الرئيس المعزول، محمد مرسي، انتخابًا شعبيًا، وفوزه بفترة حكم ديمقراطية، أول مكتسبات الثورة، ظهرت المعارضة. وهذه هي الموازنة السياسية التي تحققها أي عملية ديمقراطية حقيقية، حيث تعكس أهمية وجود أحزاب معارضة، حتى ولو لم تتوفر فيها شروط المعارضة الراشدة. كانت تتناوش الرئيس مرسي السخرية في حلّه وترحاله منذ توليه السلطة في 30 يونيو 2012، وتكثّفت عندما شرع في الزيارات الخارجية لدول عديدة. أما زيارته السودان فقد دوّن فيها أحد سدنة نظام مبارك مجافاة للحقيقة، في قوله إنّ الرئيس المصري لم يشعر بالحفاوة في بلده، فذهب يبحث عنها في جنوب الوادي. وهكذا، جنّدت تلك المعارضة كل حشودها من أجل النيل من شخص الرئيس محمد مرسي، فانشغلت بما يرضي غرورها الآني، وأفسحت الطريق لقيام الانقلاب على الشرعية.
الصورة المكرّرة في مصر اليوم أنّه عندما قاطع السودانيون الانتخابات الأخيرة، وبدت أمام العالم صور مراكز الاقتراع خاوية، كان النظام يلتف على هذه الحقيقة، وفي كل تصريح يجيء مسؤول أمام الشاشات يملأ فِيه بعبارة “إقبال كبير”، حتى صارت هذه أيقونة انتخابات السودان الأخيرة. وبالطبع، لم تهدأ التصريحات، ولم تكف الكاميرات عن كشف سوءة نوم موظفي اللجنة العليا للانتخابات في المراكز الهادئة، وربما سنحت الفرصة لهم بالأحلام والرؤى بوطن حر وديمقراطي.
سبق السودان مصر في الخذلان، وسبقتهما دول في العالم الثالث، تحت النظم التي جاءت إلى الحكم على ظهور الدبابات، إلى التفاؤل بقيام انتخابات، ثم الإحباط بعدها، بسبب خذلان العملية وما تبعها. فعلى الرغم من وفرة التجارب الديمقراطية في العالم، وأغلبه ينتخب ويصوت ويختار، ولكن في دول العالم الثالث، كما في السودان ومصر، فإنّ قلة الحيلة والتلهف إلى عهد ديمقراطي جعلا الإمساك بأهداب الانتخابات أسهل من الإمساك بفعلها، وما يمكن أن تجيء به مكرّرًا ومزوّرًا، ليصدق المفكّر العالمي نعوم تشوميسكي بقوله: “لا يمكن التخلص من الطغاة بالانتخابات، لأنّنا لم ننتخبهم أصلًا”.