حتى عبدالفتاح السيسي يتحدث في قصة “الاصطفاف”؛ حيث قدَّم، أمس، فاصلًا كوميديًا جديدًا، ضمن عروضه الشهرية، كان أبرز ما فيه أنه يرتعد من شبح تصدع بناية الثلاثين من يونيو التي اعتلاها، وانقض من خلالها على ثورة يناير.
يفعل السيسي ذلك، بينما أهل يناير، وفي كل مرة يذكر فيها “الاصطاف”، تندلع معارك كلامية، واشتباكات تلفزيونية، توسع الفجوة أكثر مما تضيقها.
بالطبع، ليس العيب في الاصطفاف، مفهومًا وفكرة وقيمة معتبرة. لكن، تبقى المشكلة في تحول المسألة إلى “عروض موسمية” تلمع وتنطفئ.
ظني أن موضوع الاصطفاف أبسط كثيرًا من أن يتحول إلى حرفة، لا أريد أن أقول مقاولة، بغية تحقيق أرباح سياسية، حزبية أو شخصية، هنا أو هناك، فضلًا عن أنه من المهم إدراك أنه لا اصطفاف يأتي بالإلحاح، أو بسيف الحياء، أو بالمساومة، أو بدعوة، من طرف إلى آخر، وإذا لم تكن كل الأطراف على يقين بأن الاصطفاف غاية بذاته، وليس وسيلة لاجتياز مسافات وملء مساحات، فإن شيئًا لن يصمد، وسيذهب سريعًا مع الريح.
عرفت الدنيا كلها ما الذي جعل اللبن مسكوبًا، ومتى ولماذا انسكب، وتبعثر أصحابه وتمزقوا، ولم يعد الأمر في حاجة إلى مزيد من وصلات العتاب والاعتذار، والعودة إلى حالة الاشتباك والقصف المتبادل، والتي كانت سببًا وحيدًا في الوصول بالجميع إلى مرحلة الشتات الثوري.
قبل نحو عام كتبت هذه السطور، وأزعم أننا لم نغادر تلك اللحظة بعد:
كان من المفترض أن الفترة التالية لتبرئة نظام مبارك وإدانة ثورة يناير هي اللحظة النموذجية لتحقيق حالة توافق وطني، واصطفاف ثوري غائبة؛ إذ أدركت كل القوى والتيارات الشريكة في ثورة يناير أن الغبار انقشع، والغيوم زالت، وبدت تفاصيل الصورة واضحة، تمام الوضوح، ومضمونها أن دولة مبارك عادت بثورة مضادة عسكرية.
وبالفعل، تعالت الأصوات، تعلن أن التحرك ينبغي أن يتأسس على أن اليوم التاسع عشر من أيام ثورة المصريين قد جاء، وعلى كل المنتسبين لهذا الحدث التاريخي أن يسموا فوق الخلافات الحزبية الضيقة، ويواصلوا نضالهم الثوري بالكيمياء المدهشة التي حددت شكل التفاعل طوال 18 يوماً، بدأت بالخامس والعشرين من يناير 2011، وتوقفت يوم 11 فبراير بتخلي حسني مبارك عن منصبه، وتكليف مجلسه العسكري حكم البلاد.
غير أن أسابيع كرّت سريعًا منذ الحكم بإعادة رموز نظام مبارك إلى مقاعدهم، فيما يبدو أن فورة الغضب الثوري تلاشت شيئًا فشيئًا، حتى بدا معشر الثوار المحترفين وكأنهم مجموعة من البيزنطيين، يتبادلون أنخاب الجدل العقيم، ويتقاتلون على جلد نمرٍ لم يتم اصطياده بعد، ولا يبدو أن هناك من يمتلك الجدية الكاملة في اصطياده، إلا هؤلاء الذين يزرعون الشوارع والميادين غضبًا وثورةً، على مدار عام ونصف العام، منذ انقلاب عبدالفتاح السيسي على الحكم، واختطافه السلطة.
يتعارك الثوار و”الثورجيون” وسماسرة الحراك الثوري، الآن، حول قضايا عدمية، نوعًا من تمضية الوقت أحيانًا، وهروبًا من العمل الحقيقي على أرض الواقع، من ناحية أخرى. إذ بدلًا من أن يكون الجهد كله منصبًا على تفعيل حالة الاصطفاف والتوحد من جديد، يختطف بعضهم الحوار إلى مراعي الكلام الفسيحة، ليقول لك علينا أن نتفق، أولًا، على شكل الدولة في فترة ما بعد الانقلاب، ويثير غبارًا كثيفًا حول ضمانات مدنية الدولة وعلمانيتها، وكأن الانقلاب قد انقشع بالفعل، ولم يعد أمامنا من موضوع للنضال والحوار سوى الاشتباك حول الثنائية العبثية: الدولة الدينية والدولة العلمانية.
وظني أن هذا الاشتباك يقدم هدية مجانية لدولة العسكر في مصر، ولا يغيب عن الأذهان أن افتعال هذا الصراع وصناعة الفزع من هيمنة الدولة “الدينية الإخوانية الإرهابية” كانا الثغرة التي نفذ منها الجنرالات، للانقضاض على ما جاءت به ثورة يناير من ديمقراطية وليدة. ولعلك تذكر تلك القائمة الطويلة من منتجات آلة الدعاية السوداء التي راحت تدغدغ العواطف، باستخدام شبح الهوية والتخويف من ردة إلى عصور الظلام ومحاكم التفتيش، وتزويج الفتيات في سن التاسعة، ومنع المايوه البيكيني، وتحريم الفن وتجريم الإبداع.. إلى آخر هذه الكوابيس المصنوعة في ورش الانقلاب.
والنتيجة أن لا دولة مدنية قامت، ولا دولة دينية تحققت، بل هيمنت الدولة العسكرية، وتحكمت في مفاصل البلاد ومصائر العباد، حتى صارت السماء تمطر جنرالات، والأرض تنبت عسكرة، لتعود البلاد ستين عامًا إلى الوراء.