لا أعلم لماذا تملكت مخيلتي صورة هذا الشاب الصحفي الصغير، أحمد عاصم، المصور الصحفي في جريدة “الحرية والعدالة”، الذي استشهد في أثناء تأدية واجبه الصحفي بتغطية أحداث الحرس الجمهوري، ليكون في وقتها رابع شهيد للصحافة منذ ثورة 25 يناير، وحمَّلت النقابة في بيان لها، الدولة مسؤولية عدم تقديم متهمين أو أدلة في حوادث استشهاد الصحفيين أحمد محمود الصحفي في السعودية، والحسيني أبو ضيف الصحفي في الفجر، وصلاح الدين حسن صلاح الدين مراسل جريدة “شعب مصر” في بورسعيد، وأحمد عاصم.
لقد سبق أحمد عاصم شهداء ولحقه أيضًا شهداء كثر وبالطبع ما زال مسلسل الإفلات من العقاب مستمرًا، خاصة في الحالات التي يتم الإشارة فيها بوضوح إلى دور مؤسسات الدولة الأمنية، وتعكس تحقيقات الشرطة وأجهزة الأمن في تلك الجرائم الأزمة السياسية والمجتمعية التي تعصف بالسلطة ومحاولاتها للالتفاف على الحقائق، بل الإهمال المتعمد في إجراء التحقيقات المحايدة، والعبث بالأدلة أو قتل القضايا بالزمن في تصور مغلوط بأن إطالة الزمن دون الوصول إلى الجناة في تلك الجرائم، سيتولد عنه نسيان تلك القضايا ونسيان الضحايا وأسرهم.
وما يلفت النظر أيضًا تعمد الإعلام الموجه إلى عدم الحديث عن هؤلاء الضحايا، ومحاولة دفن تلك القضايا وأصحابها في غياهب تاريخ منقوص، يظن الأقوياء أنهم من يكتبونه بمفردهم بعيدًا عن الواقع والحقيقة، وتدرك الأنظمة الشمولية أن إقرار نهجها في الإفلات من العقاب يكرس لضياع العدالة وتعميق الانقسام المجتمعي؛ ولذلك هو وسيلتها.
ولكنّ للتاريخ وجهًا آخر وللحقيقة دائمًا مقومات البقاء، في الوقت ذاته الذي تتآكل معه قدرة تلك الأنظمة على إبقاء إحكام القبضه الأمنية والإعلامية.
فتجاوز تلك الجرائم الفظيعة وتجنب المحاكمات والعقاب وتمكين الفعلة من الإفلات هذا دائما نهج الأنظمة الشمولية التي يحكمها الفرد، وهي الفرد السلطوية، التي تدمن على هذا النهج، وتعيد إنتاج تلك الجرائم في كل وقت، ولا شيء يغل يد أجهزتها في تنفيذ تلك الجرائم وانتهاج هذا النهج طالما تم إقرار إفلات مرتكبي تلك الجرائم من العقاب، وإعادة إنتاج كل أنواع الانتهاكات لحقوق الإنسان وحرياته لإعادة بناء أسوار الخوف والعزلة.
ولكن قبر الماضي ودفنه مستحيل في ظل عالم رقمي جديد، تتسابق فيه كل الوسائل لفضح الانتهاكات ولنقل المعلومة في اللحظة والثانية، ونسيت تلك الأجهزة أن قدرتها على التعتيم والتشويش لن تستمر طويلًا في عالم الإعلام الجديد، وغير التقليدي، وإن تم استهداف حاملي الرسالة والخبر من صحفيين، ولكن حتى لو تم قتل حامل الرسالة حتما لن تموت رسالته، وستصل وسيدركها العالم وستفضح كل هؤلاء.
الحق في المعرفة تجاوز حدود وإمكانات الأنظمة الشمولية، ولن تستطيع إحكام تغييبها للشعوب وللمعلومة.
وإن كان بإمكانها إخفاء الحقيقة بعض الوقت، ولكنها بالتأكيد لن تستطيع قبرها في قبور الظلم الأسود كل الوقت، وستبقى الحقوق الأساسية للضحايا وذويهم ناطقة وصارخة تطالب بالكشف عن مرتكبي كل تلك الجرائم، ومطالبة بمحاكمة كل من تسبب في سفك دماء الأبرياء.
نضال الشعوب ومجتمعاتها تراكمي، وحفظ الذاكرة الجمعية للشعوب المضطهدة هو ميراث تتوارثه أجيال مناضلة متجردة قادرة أن تقاوم الظلم والظالمين، وبقدر قدرة تلك الأجيال المناضلة على تحمل هذا النير بقدر وصول المجتمعات لبر الأمان وللسلام المجتمعي.
وفي ذكرى اليوم العالمي لمناهضة الإفلات من العقاب، يجب أن نرفع جميعًا الأصوات، ونذكر هؤلاء الضحايا بالاسم، ولن ننسى ضحية واحدة، وسنتمسك كمجتمع بحقنا في المعرفة، ولن نتوقف أبدًا، ولن نمل من تكرار المطالبة بمعاقبة كل من أجرم في حق الشعب المصري.
سنحافظ على العهد، وسنبكي على قبر كل شهيد، وسنضم كل أم وكل أب وكل أخ وكل أخت أو صديق فقد عزيزًا أو حبيبًا، ونقول لهم لستم وحيدين ولا منسيين.
واليوم دعوة لرفع الصوت وتشكيل وعي جمعي بمناهضة الإفلات من العقاب، والالتفاف حول معاني العدالة والمحاسبة، والتمسك بالحلم في استكمال طريق الثورة، وهو الطريق المأمول والمضمون لمناهضة إفلات مرتكبي الجرائم من العقاب، ولبناء مجتمع السلم والديمقراطية.