اسمه سهم بن كنانة. مؤرخ ومؤلف سيبزغ اسمه بعد نحو قرن من الزمان. فيما يلي فصل جديد من كتابه «الفصل المنسي، من قصة الانقلاب على مرسي»، والذي سيصدر في عام 1534 للهجرة، 2110 للميلاد (سبق أن نشرت لي هذه الصحيفة فصلًا من الكتاب).
حدّث سهم بن كنانة قال: لما أطاح العسكر بمرسي، واستعادوا السلطة والكرسي، لفّقوا له التهمة تلو التهمة، وهو في السجن يدعو القويّ ذا الرحمة، وسخرت منه مواقع التصهينْ، التي تكره الدّين والتديّن، فزعمت أنه وحيد في محبسِه، إلا من طعامه وملبسِه، وأن ليس معه إلا مصحف وسجادة، فليدع الحكمَ وليتفرّغْ للعبادة، وهكذا ظنّ القومُ أنّ مرسي بلا نصيرْ، وجهلوا أنّ الله سميعٌ بصيرْ، وأنّ الظلمَ مرتعُه وخيمْ، وإنِ انتفش حتى صار كالطود العظيمْ، وأنّ النصرَ حليفُ كلّ مظلومْ، لاسيما إن شكا أمرَه إلى الحيّ القيومْ.
قال سهم بن كنانة: وعلا في مصر عساكرها، واستبدّ فيها أكابرها، وشقّوا على العبادْ، وأكثروا فيها الفسادْ، وعلا شأنُ الراقصاتْ، حتى ترشّحن للانتخاباتْ، وأُلقيَ في السجن كلّ متديّنْ، من غير تهمةٍ ولا تبيّنْ، بل حُكِم على الأشراف بالإعدامْ، وجُرّعوا كؤوسَ الحِمَامْ، وأُطلق سراحُ اللصوصْ، ووُفّوا أجرَهم غير منقوصْ، واختطف القومُ حتى الصبايا، وساقوهن إلى المعتقلات كالسبايا، ووضعوا الأغلالَ في أيديهنْ، وكسروا قلوبَ أهاليهنْ، فلا تسلْ عن عِظَم المصيبة، التي حلّت بمصر الحبيبة، ولا تسل عن دموع الثَّكالى، ومشايخ جعلوا الحرامَ حلالا، والليالي من الزمان حُبالى، واستخف فرعونُ قومَه فأطاعوه، واتّخذه بعضُهم رسولاً فاتّبعوه، وآمن له كلُّ مُعتدٍ أثيمْ، ومجّدَه كلُّ ساحرٍ عليمْ، ولم يكن لدى مرسي شيءٌ من القوة، ولا حيلةٌ تنقذ البلادَ من الهوّة، إلا أن يستعصمَ بحبل ربّه، فاستجاب له وربط على قلبِه.
قال سهم بن كنانة: وكان فرعون يحبّ الرزْ، كما يحبّ الحديدَ أحمد عزْ، ويبتز أقواماً ليمدّوه به، فإن رفضوا عضّهم بنابِه، وسلّط عليهم جيشاً من سحَرَة، لا يعصيه أبداً ما أمرَه، فنبحوا كالكلاب، وأقذعوا في السباب، وكان هؤلاء سِفْلةَ أهل مصرْ، بل لم يُر مثلُهم في أيّ عصرْ، وقد مردوا على التلفيقْ، في كلّ خبر وتعليقْ، وتجمعهم كراهيةُ الدينْ، وموالاةُ الكافرينْ، وما منهم إلا خبيثُ النيّة، سيّءُ الطويّة، متلهّفٌ على رشوة، أو متطلعٌ إلى حظوة، وقد عبّوا من التصهين حتى ثملوا، فعسى الله أن يجزيَهم بما عملوا.
قال سهم بن كنانة: وحكم فرعونُ بالحديدْ، ولم يأتِ بالقول السديدْ، واتّبع كلَّ شيطان مَريد، بل خان مصالح الأمة، ولم يرقبْ في مؤمن إلاً ولا ذمة، إذ أسلم أهلَ غزة ليهودْ، وشارك في حصارهم على الحدودْ، وأحرق من أجل ذلك قرى بأسرِها، وأسرف في خنقها وأسرِها، أغلق عليهم البابْ، واتّهمهم بالإرهابْ، وسلّط عليهم الجيشْ، ليمنعَهم لقمة العيشْ، ودمّر أنفاقاً كانوا يحفرونها لجلب الطعامْ، وهي جريمةٌ يأنف منها حتى اللئامْ، بل لم يفعلها الجاهليون في صدر الإسلامْ، وقد حدّثني أبي أن فرعون ضخ ماء البحر في أنفاق حول غزة، فأغرق أرضَها وأحدث فيها هِزّة، فلعنه الله ولعن رزَّه، بل لعنة الله عليه ما صلى مؤمنٌ الفرضْ، ولعنة الله عليه مادامت السماواتُ والأرضْ.
قال سهم بن كنانة: ودعا فرعونُ الناسَ إلى انتخاباتْ، فلم يطعْه حتى القيْناتْ، ولزم الناسُ البيوتْ، فكاد من خزي يموتْ، وسُقِط في يدِه، وفُتَّ في عضُدِه، ولم ينبسْ ببنت شفة، رغم ما عُرف عنه من سفَهْ، فجلّله الله بالصّغَارْ، وجعله عبرةً لأولي الأبصار، وما هي إلا برهةٌ من زمنْ، حتى افتضح أمرُه في اليمنْ، وثبت أنه يغازلُ فيها المجوسْ، ويستميلُ ودّ الروسْ، ثم أعلن ولاءه لسفّاح الشامْ، فأماط عن خيانته اللثامْ، فعرف أقوامٌ من العرب ما انقلب لأجلِه، وأدركوا أنهم صنعوا المعروفَ في غير أهلِه، ثم إنه سقطت في سيناء طائرةٌ للروسْ، وزهقت كلُّ من فيها من النفوسْ، فاتهم القيصرُ فرعونَ بالتفريطْ، ووصفه بالتافه والعبيطْ، وسحب الرومُ رعاياهم من مصرْ، فخسر فرعونُ وقومُه من الأموال ما لا يسعُه الحصرْ.
قال سهم بن كنانة: وأرسل الله المزيدَ من آياتِه، ليوقظ كلَّ غافلٍ من سباتِه، فهطلت أمطارٌ على الإسكندرية، غرق بسببها الآلافُ من البريّة، وانكشفت فضائحُ البنْيةِ التحتية، ولم يُحِرْ فرعونُ جوابا، واسودّ وجهُه فكان غرابا، فسبحان من يدافع عن أوليائِه، ويقهر طغاة الأرض وهو في عليائِه، وقد حدّثني أبي أن والي مصر، محمد مرسي، كان يتلو في سجنه هذه الآية: «تلك الدارُ الآخرةُ نجعلُها للذين لا يريدون علوّاً في الأرض ولا فساداً، والعاقبةُ للمتقين».