شبكة رصد الإخبارية
follow us in feedly

فوارق رئيسية بين التجربتين التركية والعربية (2)

فوارق رئيسية بين التجربتين التركية والعربية (2)
يحتاج العرب إلى التأمل طويلًا في التجربة التركية، لا على سبيل الاقتداء بها، بل على سبيل الاستفادة منها، ومن الاستفادة أن تُعْرَف مواطن الاتفاق ومواطن الافتراق

يحتاج العرب إلى التأمل طويلًا في التجربة التركية، لا على سبيل الاقتداء بها، بل على سبيل الاستفادة منها، ومن الاستفادة أن تُعْرَف مواطن الاتفاق ومواطن الافتراق، وأحسب أن التجربة التركية ضائعة بين من يتجاهل نجاحها وبين من لا يرى غيرها.

ولهذا بدأنا في المقال الماضي إلقاء النظر على فوارق رئيسية بين التجربتيْن، وهي فوارق تمنع من تكرار هذه التجربة أو الاقتداء بها في المحيط العربي، فيبقى أن نستفيد منها.

على أنه ينبغي هنا أن نكرر على معنى قديم لمن يحب الاقتداء بالتجربة التركية، وهو أن العدو يقرأ التاريخ أيضًا؛ إذ يحسب الكثيرون أنه إن نجحت خدعة مرة أو طريقة مرة أنها قد تصلح في كل مرة، يحسبون العدو غافلًا عن قراءة التجارب ويكرر أخطاءه ذاتها!!

ونعود إلى ذكر الفوارق الرئيسية بين التجربتيْن:

(5)

صراع الهوية

قال عمر بن الخطاب: العرب مادة الإسلام، فإذا عزَّ العرب عزَّ الإسلام، وإن ذل العرب ذل الإسلام.

إن إحدى أهم الحقائق التاريخية الكبرى أن العرب لا يملكون شيئًا غير الإسلام، به كان مبتدأ أمرهم وبه بلغوا عزهم وصنعوا حضارتهم، وهم حين يأملون في بعث نهضتهم فليسوا يجدون غير الإسلام راية وشعارًا وسبيلًا، بل هم لا يعرفون غيره في باب الحضارة، بخلاف الحضارة الغربية -مثلًا- التي تمتد جذورها “الحضارية” إلى ما قبل المسيحية: فلسفة اليونان وحضارة الرومان!

وما يهمنا -في سياقنا هذا- أن آثار حقبة الاحتلال الأجنبي للدولة العثمانية اختلفت بين العرب والترك، فمن الصحيح أن الاحتلال غذّى ودعم القومية العربية عند العرب والطورانية عند الأتراك، لكن العرب لم يجدوا في النهاية سوى الإسلام قومية لهم وفشلت فكرة القومية العربية المعادية للدين وتحولت إلى استبداد سلطوي بلا جذور فكرية ولا شرعية اجتماعية.

بينما كان النجاح أعلى من هذا في التجربة التركية، فقد عمل أتاتورك على إنشاء هوية جديدة خُلِق لها تاريخ جديد ولغة جديدة، فقد تولت ابنة أتاتورك بالتبني كتابة تاريخ جديد لتركيا، وكانت هي نفسها تلميذة في جنيف للمؤرخ الأنثروبولوجي يوجين بيتارد صاحب نظرية أن التاريخ هو صراع الأجناس العليا مع الأجناس الدنيا، فصَدَرَ عنها تاريخ عنصري يرى الترك جنسًا أعلى، موجودًا منذ قديم الزمان في منطقة الأناضول، وله لغة عليا قديمة أخذت منها سائر اللغات، وصارت المهمة تنقية اللغة مما دخلها من العربية والفارسية.. ونشأ جيل يظن نفسه أصل البشر وأعلاهم جنسًا وأشرفهم لغة، ولا يرى للإسلام فضلًا عليه.

لم يحدث هذا في التجربة العربية، فالقليل من حكام العرب -مع كل فجورهم- من استعلن بالكفر في مواقف محددة وقليلة، وظل خطابهم العام هو احترام الإسلام أو حتى الدفاع عنه شكليًا وعلنيًا.

كانت الحركة الإسلامية في تركيا تصد عن نفسها تهمة الخروج عن العلمانية، بينما كان الحكام العرب يصدون عن أنفسهم تهمة الخروج عن الإسلام.

ولا يُعقل أن تبدأ التجربة العربية المنتصرة في مسألة الهوية، من حيث بدأت التجربة التركية المهزومة في مسألة الهوية.

(6)

بنية السلطة

كان من آثار “المشهد الديمقراطي” الموجود في التجربة التركية والغائب عن التجربة العربية، أن اختلفت بنية السلطة في كليهما:

في العالم العربي يبدو واضحًا أن الرئيس هو الإله بالنسبة للدولة، يقضي ما يشاء ويفعل ما يريد، والدولة كلها مجندة لتنفيذ رغباته مهما كانت غير طبيعية.. لذلك يتخيل العرب أن الوصول إلى موقع السلطة في دولة كتركيا يساوي أن الرئيس قد تمكن منها وصار يستطيع أن يفعل ما يريد، فكيف إذا قضى في السلطة أكثر من 12 عامًا؟!!

الحقيقة بخلاف هذا، فالنموذج التركي منذ الخمسينيات يسمح بديمقراطية شكلية قد تصل إلى تغير منصب رئيس الحكومة وأن يصعد إليه إسلاميون، وفي لحظة حرجة يأتي الانقلاب العسكري.. حتى النظام العلماني في تركيا لا يحكم تركيا بمجرد وجوده في السلطة بل من خلال تنظيم سري له العديد من الأذرع، لذلك أطلق وصف “الدولة العميقة” على الوضع التركي.

الديمقراطية التركية أقرب إلى التنافس على “جزء من السلطة” بينما الأجهزة النافذة التي لا تخضع لانتخابات وأهمها: الجيش والشرطة والقضاء والجهاز الإداري تمثل الثقل الرئيسي في جسم السلطة.. وهذا الثقل الرئيسي قادر دائمًا على الانقلاب على نتائج الديمقراطية التركية.

هذا بالإضافة إلى دور وسائل الإعلام (ووسائل الإعلام في أي نظام رأسمالي تكون جزءًا قويًا من السلطة ولكنها لا تخضع للشعب ولا تعبر عنه بل تعبر عن مموليها.. وفي عصرنا هذا فالممولون يؤولون في النهاية للغرب والأميركان).

فالخلاصة أن السلطة في تركيا لا تشبه السلطة في العالم العربي من حيث شموليتها.. ومع هذا فإن تركيا بلد التنظيمات السرية، ويجري تحت سقف الأحداث المعلنة معارك عديدة بين هذه التنظيمات.

بينما يبدو وضع العالم العربي وكأن السلطة فيه احتكرت الوجود وصادرت ما سواها، أو لنقل: إن هذا الجانب ما زال مظلمًا مغلقًا لا يُعرف عنه الكثير في العالم العربي، ولا يمكن أن ُيُعرف بدقة ما إذا كانت السلطة هي التنظيم الأوحد، أم هي الجزء المعلن من تنظيمات سرية حاكمة وخفية.

ولئن كان النظام الديمقراطي التركي سمح باشتباك بين الإسلاميين وهذه السراديب السرية، فإن غياب هذه الديمقراطية في العالم العربي يجعل الأمر مختلفا وأكثر صعوبة.

 (7)

التغيير من داخل النظام

ذكرنا في المقال الماضي، أن من آثار المشهد الديمقراطي في النظام التركي: احتواء الحركة الإسلامية؛ إذ ظل السبيل الديمقراطي مفتوحًا أمامها حتى لم تفكر في مواجهة النظام من خلال حركة جهادية أو ثورة، ويكاد يختفي من التاريخ التركي الحديث قصة تجربة جهادية (مع وجود أفكار جهادية ولها انتشار ليس بالقليل بين الإسلاميين الأتراك). بينما انسداد السبل في العالم العربي لم يجعل من وسيلة للتغيير سوى الخروج على النظام ومصادمته.

صحيح أن الحركة الإسلامية التركية نجحت في لحظة ما -بعد محاولات عديدة- بالإمساك بزمام السلطة، إلا أن التغيير لم يزل بطيئًا، وهو تغيير من لم يتمكن من مفاصل الدولة الرئيسية بعد، ربما يبدو الآن عصيًا على الانقلاب عليه لكنها أيضًا عصية عليه، ومن يعش في تركيا يعلم أن جهاز الدولة ليس مستجيبًا للتوجه السياسي حتى الآن، بل هو معرقل له في كثير من الأحيان.

وتبدو المقارنة واضحة مع إيران، تلك التي جاء فيها التغيير جذريًا وحاسمًا وبعد ثورة كبرى؛ إذ لم يمض وقت طويل حتى خلصت إيران ومفاصلها للملالي، فلذلك كان نمو القوة الإيرانية -رغم ما واجهته من حروب استغرقت نحو عقد من الزمن- أسرع وأفضل من غيره، فالتوسع الإيراني السياسي والثقافي (القوة الناعمة) هائل إذا قيس بكل العالم السني ومعهم تركيا أيضًا. فلا تزال يد النظام التركي مغلولة عن أن تفعل عشر ما يفعله الإيرانيون من دعم المد الشيعي في أنحاء العالم.

وهكذا لكل شيء تكاليفه: فالتغيير من داخل النظام أقل كلفة بشرية ومادية ولكنه أبطأ كثيرًا وحافل بالعثرات ويشترط نظامًا يسمح بهامش من التغيير. بينما التغيير الثوري الجذري أعنف وأقسى وهائل التكاليف، لكنه نتائجه أرسخ وأسرع وأقوى وهو الحل الوحيد في ظل نظام لا يسمح بأي هامش للتغيير ولا لديه أي مساحة للاحتواء.



تنفيذ و استضافة وتطوير ميكس ميديا لحلول الويب تنفيذ شركة ميكس ميديا للخدمات الإعلامية 2023