تعتبر إسرائيل من أكثر دول العالم، إن لم تكن أكثرها على الإطلاق، كراهية للأمم المتحدة واستخفافاً بها وانتهاكاً لميثاقها ولقراراتها، ومع ذلك ظلت هذه الدولة العاصية شديدة الحرص على التواجد على الساحة الدولية وسعت بكل الوسائل المشروعة وغير المشروعة للاقتراب من هياكل وآليات صنع القرار في هذه المنظمة الأممية، واستطاعت تحقيق انتصارات سياسية على ساحتها مكَّنتها أخيراً من كسر طوق العزلة الديبلوماسية المفروضة حولها، في مفارقة تستحق أن نتأمل حقيقة أسبابها وأن نحاول سبر أغوارها ودلالاتها.
ففي تشرين الأول (أكتوبر) الماضي عقدت «اللجنة الرابعة المعنية بالمسائل السياسية الخاصة وإنهاء الاستعمار»، جلسة لبحث سبل التعاون الدولي في مجال استخدام الفضاء الخارجي للأغراض السلمية، وتقدمت الولايات المتحدة الأميركية خلال هذه الجلسة بمشروع قرار استهدف زيادة عدد أعضاء «لجنة استخدام الفضاء الخارجي في الأغراض السلمية».
ولأن إسرائيل كانت بين الدول التي رشحت نفسها لعضوية اللجنة الموسعة، فقد أبدت دول عربية تحفظات على ترشيحها لأسباب تتعلق بعدم تمتع أنشطتها الفضائية بالشفافية ولإصرارها الدائم على رفض الانضمام إلى أي من معاهدات حظر انتشار الأسلحة النووية، وهو ما يتعارض مع الطبيعة السلمية للجنة. غير أن ما أثار الانتباه حينئذ كان انقسام دول المجموعة العربية عند التصويت على مشروع القرار المتعلق بهذا الموضوع، فبينما امتنعت غالبية الدول العربية عن التصويت عليه، صوَّتت لصالحه أربع دول عربية، هي مصر وعمان والإمارات العربية وجيبوتي، معللة هذا التصويت بأنه لم يستهدف الموافقة على ضم إسرائيل لعضوية اللجنة الموسعة وإنما دعم انضمام الدول العربية المرشحة لعضوية هذه اللجنة.
وعلى رغم أن هذا التفسير لم يكن مقنعاً للجميع وبدا مؤشراً على ما حدث من تغير في اتجاهات تصويت المجموعة العربية في القضايا المتعلقة بإسرائيل على الساحة الدولية، إلا أنه لم يخلُ من بعض المنطق في هذه الحالة تحديداً.
ومنذ أيام قليلة، أقدمت «مجموعة أوروبا الغربية ودول أخرى» على ترشيح إسرائيل لرئاسة إحدى اللجان الدائمة الرئيسية للجمعية العامة للأمم المتحدة، وهي اللجنة القانونية أو «اللجنة السادسة».
ولأن العادة جرت على تسوية الأمور الانتخابية بالتوافق العام من دون حاجة لطرحها للتصويت، إلا أن اعتراض دول عربية وإسلامية على هذا الترشيح أجبر الجمعية العامة على طرح الموضوع للتصويت، وهو ما تمَّ بالفعل يوم 13 حزيران (يونيو) الجاري وكانت نتيجته كالتالي: موافقة 109 دول، من إجمالي الدول الأعضاء في الأمم المتحدة والبالغ عددها 193 دولة، وامتناع 23 عن التصويت، وتغيب 14 دولة، وعلى إثره أُعلن فوز إسرائيل برئاسة اللجنة القانونية في الأمم المتحدة، وهو ما عكس مفارقة ثلاثية الأبعاد:
البعد الأول يتعلق بطبيعة الدولة التي فازت بهذا المنصب الرمزي الرفيع. فالدولة الأكثر انتهاكاً للقانون الدولي أصبحت على رأس اللجنة المسؤولة عن كفالة احترام هذا القانون في المنظمة الدولية المسؤولة عن حفظ السلم والأمن في العالم. ولا جدال في أن هذا الفوز يعد انتصاراً مدوياً للديبلوماسية الإسرائيلية، لكنه ينتقص في الوقت نفسه من هيبة ومكانة الأمم المتحدة ويحولها إلى مجرد أضحوكة.
البعد الثاني يتعلق بشخصية الرجل الذي سيتولى رئاسة هذه اللجنة، وهو داني دانون مندوب إسرائيل الدائم في الأمم المتحدة، والمعروف بمواقفه الشديدة التطرف. فهو من صقور حكومة نتانياهو اليمينية المتطرفة، وتعتبره بعض أوساط اليسار في إسرائيل نفسها وصمة عار لا يحق له أن يحظى بشرف تمثيل الدولة اليهودية في أكبر المحافل الدولية، ويجاهر دوماً بمعارضته لحل الدولتين، ولا يخفي حماسته لسياسة التوسع الاستيطاني التي انتهجتها الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة، وبخاصة في منطقة القدس، ورفضه اتفاقية أوسلو وبالتالي انسحاب إسرائيل من الأراضي الفلسطينية التي استولت عليها عام 1967 لأنه لا يعتبرها أرضاً عربية محتلة وإنما أرضاً إسرائيلية محررة! وتلك مواقف تتناقض كلياً مع القانون الدولي ومع قرارات الأمم المتحدة، بما فيها قرارات مجلس الأمن الملزمة والواجبة الاحترام من جانب الدول الأعضاء.
البعد الثالث يتعلق بنتائج التصويت على مشروع القرار الذي مكن إسرائيل من تولي رئاسة هذه اللجنة. فعلى رغم سرية الاقتراع على هذا المشروع، إلا أن تقارير صحافية عدة أشارت إلى أن أربع دول عربية، لم تحددها بالاسم، كانت بين الدول التي وافقت عليه، مما يعد تحولاً خطيراً في التوجهات التصويتية للمجموعة العربية داخل منظومة الأمم المتحدة، وهو البعد الذي يستحق أن نتوقف عنده بقدر أكبر من التحليل.
للتعرف إلى عمق التحول الذي طرأ على توجهات تصويت المجموعة العربية داخل منظمة الأمم المتحدة، وبخاصة ما يتعلق بالقضايا ذات الصلة بالصراع العربي الإسرائيلي، يتعين أن نعود إلى سنوات طويلة مضت. فوجود المجموعة العربية في الأمم المتحدة يسبق وجود إسرائيل التي لم تنضم إلى المنظمة إلا عام 1949. ولأن إسرائيل كانت في حالة حرب مع الدول العربية، فقد خشيت هذه الأخيرة أن يؤدي انضمام إسرائيل إلى الأمم المتحدة إلى إجبارها على الدخول معها في علاقات غير مباشرة، لذا فقد تبنت الدول العربية منذ البداية استراتيجية تهدف ليس فقط تجنب الدخول في علاقات غير مباشرة مع إسرائيل ولكن العمل في الوقت نفسه على عزل إسرائيل على الساحة الدولية وتعرية سياساتها ومواقفها التوسعية والعنصرية أمام المجتمع الدولي، وهو ما نجح فيه العرب إلى حد كبير.
كانت الأنشطة الإقليمية للمنظمات الدولية هي المدخل الذي ولجت منه المحاولات الدولية الرامية لإدماج إسرائيل في المنطقة. ولأن الدول العربية رفضت مشاركة إسرائيل في أي أنشطة إقليمية ترعاها الأمم المتحدة، فقد تعيَّن عليها خوض معركة شرسة حول تعريف «الإقليم» وحول المعايير التي يتعين الاستناد إليها في تقسيم الدول الأعضاء إلى «مجموعات إقليمية» لأغراض تتعلق بممارسة «أنشطة إقليمية» أو لأغراض انتخابية تتعلق بمراعاة مبدأ توازن التمثيل الجغرافي عند تشكيل الأجهزة والهيئات الأممية المختلفة. ولأن مصطلح «الشرق الأوسط» كان الأكثر استخداماً وتداولاً في المنظمات الدولية، ويشير إلى منطقة جغرافية تضم إسرائيل والدول العربية معاً، فقد خاضت الدول العربية معركة شاقة وممتدة قبل أن تنجح في ترجيح وجهة النظر القائلة بعدم كفاية البعد الجغرافي في تحديد مفهوم «الإقليم»، وبضرورة أخذ البعد الثقافي والحضاري في الاعتبار.
إذ يلاحظ أن جهود الدول العربية في هذا المسعى لم تكلل بالنجاح إلا في منتصف الستينات، خصوصاً بعد أن تمكنت من تشكيل مجموعة إقليمية خاصة بها في بعض المنظمات المتخصصة المرتبطة بالأمم المتحدة ونجحت في الوقت نفسه في عدم إدراج إسرائيل في أي من الأقاليم المعتمدة رسمياً في منظومة الأمم المتحدة.
ففي عام 1964 اتخذ المؤتمر العام لليونسكو، على سبيل المثال، قراراً بتشكيل خمس مجموعات إقليمية هي: أفريقيا – آسيا – أوروبا – أميركا اللاتينية والكاريبي، والدول العربية، ولم تُدرج إسرائيل في أي من القوائم الخمس للدول الأعضاء في هذه المجموعات الإقليمية، ومن ثم بدت إسرائيل كدولة هامشية منبوذة ومعزولة في منظومة الأمم المتحدة ككل، واستمر الحال على هذا المنوال حتى حرب 1973، حيث وصل التضامن العربي ذروته وبرزت المجموعة العربية كقوة مؤثرة على الساحة العربية، واستطاعت تسجيل نقطة أخرى لصالحها على هذا الصعيد حين نجحت في تمرير قرار يقضي بأن قبول أو رفض إدراج دولة في أي من القوائم الإقليمية المعتمدة في المنظمات الدولية هي مسألة تهم المجتمع الدولي ككل ولا يجوز للمجموعات الإقليمية أن تنفرد بتقريرها. وبهذه الطريقة تمكنت الدول العربية من إحكام الحصار على إسرائيل التي حاولت من دون جدوى أن تلتحق بالمجموعة الأوروبية بعد أن رفضتها المجموعة الآسيوية.
غير أن هذا الوضع لم يستمر طويلاً، خصوصاً بعد أن راح عقد التضامن العربي ينفرط تدريجاً، ومع انفراطه بدأ طوق العزلة المضروب حول إسرائيل يلين، لينتهى الأمر بقبولها عضواً في «مجموعة أوروبا ودول أخرى». ومع ذلك ظلَّت إسرائيل معزولة نسبياً حتى داخل المجموعة الأوروبية ولم تتمكن من مباشرة دورها الطبيعي وتحصل على فرصتها في الترشح لعضوية اللجان والهيئات والفروع المختلفة إلا في السنوات الأخيرة، أي بعد الانهيار شبه الكامل للنظام العربي. (راجع كتابنا: العرب واليونسكو، سلسلة «عالم المعرفة»، العدد 135، آذار – مارس 1989، ص 164-169). فعلى رغم إقدام مصر، ثم الأردن فمنظمة التحرير الفلسطينية، على إبرام معاهدات سلام مع إسرائيل، إلا أن هذا السلام ظل «بارداً»، ومن ثم استمرت الدول العربية كافة، بما فيها الدول التي وقَّعت معاهدات سلام مع إسرائيل، حريصة على عرقلة محاولات إسرائيل الرامية لاحتلال مواقع قيادية مؤثرة في مختلف المنظمات الدولية.
نجاح إسرائيل منذ أيام في الفوز برئاسة إحدى اللجان الدائمة للجمعية العامة للأمم المتحدة، وبدعم من أربع دول عربية صوَّتت لصالحها، وذلك للمرة الأولى في تاريخ إسرائيل وفي تاريخ الأمم المتحدة على السواء، ليس له سوى معنى واحد وهو أن الطريق أمام حصول إسرائيل على مقعد غير دائم في مجلس الأمن أصبح مفتوحاً على مصراعيه وبات مسألة وقت. فهل تحسَّبت الدول العربية لهذا الاحتمال وأصبحت جاهزة لمثل هذا التطور، الذي يضيف إلى رصيد إسرائيل بمقدار ما يخصم من رصيد الدول العربية، بل والأمم المتحدة نفسها؟ وهل يمكن للأمم المتحدة أن تحظى بأي مصداقية حين تصبح الدولة التي تمارس قتل الفلسطينيين كل يوم، وبخاصة الأطفال والنساء، وهدم بيوتهم وبناء المستوطنات على أرضهم، عضواً في مجلس الأمن، أي حين يصبح «حراميها» هو نفسه «حاميها»؟