لا جدال بأن الإسلامية الديمقراطية التركية لا تحظى بقبول الأنظمة الليبرالية الديمقراطية الغربية، ولا برضى أيتام الاشتراكية الديمقراطية الشرقية، فضلا عن رضى الطغم الحاكمة الدكتاتورية ومافيا الإمبريالية العالمية، ذلك أن التجربة التركية تقدم نموذجا إرشاديا مغايرا للمنظورات الاستشراقية والثقافوية العنصرية التي تختزل الإسلامية بكيانية جوهرانية بدائية تقليدية معادية لقيم لحداثة والتقدم، فقد شكلت التجربة التركية تهديدا للمصالح الاستراتيجية للإمبرياليات الجديدة وربيبتها من الدكتاتوريات المحلية، وعلى مدى سنوات تعرضت الإسلامية التركية للضغوطات والمؤامرات لإفشالها، بعد أن أصبحت تقدم لشعوب العالم العربي والإسلامي إمكانية بديلة عن دوامة العنف والاستبداد والتبعية، وبلغت المحاولات ذروتها عقب الانقلاب على ثورات الربيع العربي لإعادة بناء السلطويات تحت شعارات الحفاظ على الديمقراطية المهددة من قبل الفاشية الإسلامية.
في هذا السياق، لا تنفصل محاولة الانقلاب الفاشلة في تركيا مساء 15 يوليو/ تموز 2016 عن إعادة بناء السلطوية لتقويض أي إمكانية إسلامية ديمقراطية ناجحة قد تلهم شعوب المنطقة بالتحرر والاستقلال، وعقب محاولات عديدة من خلال بناء شبكات وتحالفات بين قوى تركية مدنية مختلفة مسندة دوليا فشلت المكونات الإيديولوجية بالإطاحة بحزب العدالة والتنمية عبر الآليات والوسائل الديمقراطية، حيث قررت الارتكاز إلى بعض كيانات المؤسسة العسكرية والأمنية لتنفيذ الانقلاب وسحق التجربة الإسلامية التركية وتحطيم النموذج الإسلامي التركي، حيث قام “الكيان الموازي” وهو تنظيم مواز للدولة يتوافر على جهاز إيديولوجي وقمعي هجين مركب يتمتع بنفوذ داخل الجيش والشرطة ويتغلغل في جهاز القضاء وسائر مؤسسات الدولة بمحاولة انقلابية واحتل بضعة آلاف من الجنود مبنى هيئة الأركان والإذاعة والتلفزيون وحاصرت مؤسسات ووزارات وأغلقت ميادين في مدن عدة في مقدمتها أنقرة وإسطنبول.
لم تكن شعارات المحاولة الانقلابية العسكرية مختلفة عن شعارات نظرائهم في العالم الثالث فقد ادّعى بيان الانقلابيين أن الهدف من العملية هو الحرص على الديمقراطية وصيانة حقوق الإنسان والحفاظ على علمانية الجمهورية، لكن ما غاب عن أذهان الطغمة العسكرية أن تلك القيم والمبادئ كانت قد أصبحت نمط حياة معاش للشعب التركي في ظل حكم العدالة والتنمية وليست متخيلة كما هو حال عصبة الملكيات والجمهوريات في العالم الثالث، بل إن أنصار العبودية الطوعية من نخب الأنظمة العسكرية البائسة وبعض لقطاء الليبرالية الفائقة وأيتام متحجرات اليسار من عشاق الإمبريالية الجديدة والتوتاليتارية المجيدة دخلوا في حد الإيمان حين هللوا وكبروا للانقلاب.
لا شك بأن الانقلاب الفاشل كان يتمتع بدعم وإسناد الولايات المتحدة الأمريكية والدول الغربية الأوروبية وعصبة الدكتاتوريات العربية، وعلى الرغم من محاولة الحكومة والمعارضة التركية التهوين من حجم مشاركة المؤسسة العسكرية والأمنية في الانقلاب إلا أن ذلك لم يكن صحيحا فقد كانت المحاولة كبيرة وواسعة لكنها لم تكن تتمتع بالإجماع كسائر الانقلابات العسكرية التاريخية كما أنها لم تجد سندا من الرعاع وقوبلت بمعارضة صلبة من قبل كافة الأحزاب والأطياف السياسية اليمينية واليسارية ومؤسسات المجتمع المدني، وهكذا قال الشعب كلمته وتفككت قوى الانقلاب داخليا وتراجعت القوى الدولية وتابعتها الإقليمية عن حماستها وتدرجت في مواقفها من الدعم إلى الحياد فالإدانة.
لعبة الانقلابات العسكرية تاريخيا تصنع في أقبية مظلمة فهي مزيج من الحساب والمغامرة ولا تتم إلا عقب اتصالات مع قوى دولية وإقليمية ومحلية وفي حال نجاحها تتلقى الدعم العلني تحت ذريعة البراغماتية والواقعية بدعوى حفظ الاستقرار وفي حال فشلها تتعرض للإدانة والنبذ وتترك لمصيرها وقد تتلطف هذه القوى بطلب الرحمة تحت بند المحافظة على العدالة والقانون، وفي الحالة التركية المعقدة سوف تبدأ الدولة الاقتصاص من الكيان الموازي كمدبر للانقلاب بأجنحته العسكرية والإيديولوجية.
خطابات أردوغان بعد فشل المحاولة الانقلابية اتجهت صوب التخلص من “الكيان الموازي” الذي يقوده فتح الله غولن زعيم جماعة الخدمة القابع في بنسلفانيا في أمريكا كما هي العبارة الأثيرة لأردوغان، وهو رجل يتمتع بدعم أمريكي وأوروبي، وكان قد عمل على بناء تحالفات انتخابية مع كافة القوى المناهضة للعدالة والتنمية وشكلت الانتخابات البلدية التي جرت في 30 آذار/ مارس 2014 ذروتها، إلا أن ذلك لم يكن كافيا للفوز وهزيمة العدالة والتنمية وفي خطاب النصر الذي جاء عقب الإعلان عن فوز حزب العدالة والتنمية بالانتخابات البلدية التركية آنذاك توعد “أردوغان” باقتلاع ما وصفه بـ “الكيان الموازي” من جذوره استنادا إلى القانون وقال “لن تكون هناك دولة داخل الدولة، لقد حان الوقت للقضاء عليهم”.
إذا كانت تلك الانتخابات البلدية وسائر الانتخابات التشريعية التي تلتها برهنت عن خطأ حسابات وخيبة رهانات أنصار “غولن” في تغيير مسارات السياسة التركية وأثبتت ضعف حجم “حركة الخدمة” وتأثيرها في توجيه الناخبين فإن حركة غولن كانت لا تزال تراهن على كيانها الموازي داخل أجهزة الدولة المدنية والعسكرية والدعم والمساعدة الخارجية، الأمر الذي دفع أردوغان إلى محاولة تخليص الدولة مما أطلق عليه وصف “الكيان الموازي” من خلال تبني مجموعة من التشريعات والقوانين التي تساهم في إعادة هيكلة وبناء أجهزة الدولة، وإعادة النظر في طبيعة العلاقة بين أجهزة الدولة ومؤسساتها المختلفة، لكن ذلك لم يكن كافيا لأسباب عديدة.
عندما وجه أردوغان لغولن تهمة تدبير الانقلاب الفاشل وطالب أمريكا بتسليمه رغم نفي الأخير لأي علاقة وإدانته لمحاولة الانقلاب العسكري كان أردوغان يدرك جيدا من هو غولن ومن هم حلفاؤه، إذ لا جدال بأن التحالف الذي جمعهما مكن العدالة والتنمية من الوصول للحكم وقد كوفئت على ذلك فحركة غولن ازدهرت ونمت داخليا في ظلِّ حكومة أردوغان الممتدة بين 2002 ــ 2013، فهي التي شرّعت الأبواب أمامها لممارسة أعمالها بحرية وسهلت لها الدخول في كافة قطاعات وأجهزة الدولة، وخصوصا تغلغلها في وزارات التربية والتعليم، والداخلية ومديريات الأمن والاستخبارات، ووزاراتي الخارجية والعدل، بل ذهب أردوغان إلى حدّ شرعنة الحركة ودعمها والترويج لأنشطتها دوليا، إلا أن شقة الخلاف بدأت تتسع على خلفية جملة من الاجتهادات المتعلقة بقراءة المتغيرات وطرائق تدبيرها وتسويقها محليا وعالميا.
يمكن أن نتفهم طموحات غولن وحركته وتعاونه وتنسيقه مع كافة القوى الدولية والإقليمية والمحلية رغم كارثيتها ويمكن أن نفهم طبيعة المصالح التي تجمع هذه القوى للإطاحة بتجربة الإسلامية الديمقراطية التركية، لكن ما لا يمكن تصوره كيف تقوم كائنات لا أخلاقية في عوالم الدكتاتوريات العربية بتأييد الانقلاب على التجربة الديمقراطية الإسلامية التركية، وكيف أصبحت الأوهام الإيديولوجية بضاعة رائجة في حفلات العشق الفاشي للجيوش البائسة المنتصرة على شعوبها، وما هي المكونات الخسيسة التي شكلت ضمائرهم الخربة، هل هو الإدمان على العبودية والتلذذ بالمهانة والإذلال والنفور من الحرية والكرامة، لكن لا غرابة على ليبراليي ديمقراطية جورج بوش ولا على يساريي ديمقراطية جوزيف ستالين فهم يمكن أن يتصالحوا مع كل القتل والخراب ولا يمكن أن يتسامحوا مع إسلامية رجب أردوغان وديمقراطيته.