حين يوصف النقد بأنه «تشكيك» فإن ذلك يعنى أربعة أمور على الأقل، من ناحية فإنه يعطل آلية التصويب ويلغى فكرة الرأى الآخر، من ناحية ثانية فإنه يعد من قبيل التفتيش فى النوايا المذموم دينا ودنيا. من ناحية ثالثة فإن ذلك يعد نوعا من التخويف والإرهاب الفكرى يدعو كل صاحب رأى آخر إلى كتمان وجهة نظره تجنبا لمظنة الاتهام. الأمر الرابع أن إطلاق ذلك الحكم يوجه رسالة خلاصتها أن التصفيق وحده الموقف المقبول والتعبير الوحيد الذى يجسد «النقد البناء».
أدرى أن الأجواء الراهنة فى مصر استصحبت حساسية خاصة إزاء الرأى الآخر، وأن ضيق الصدر أصبح أحد معالم الصورة التى نلمحها فى الخطاب الإعلامى فضلا عن السياسى، كما أفهم أن ثمة توجيها صدر قبل عدة أسابيع نبه إلى أن ثمة تقصيرا فى إبراز الإنجازات فى حين تسلط أضواء كثيرة على ما يعد إخفاقات أو عثرات، وحين يكون معلوما أن نحو ٩٠٪ من وسائل الإعلام المقروءة، فى مصر تلتزم بصورة أو أخرى بموالاة سياسة الدولة، فى حين أن الإعلام المرئى والمسموع كله تحت سيطرة السلطة، فذلك يصور مدى الحساسية والضيق لدى الجهات المسئولة إزاء الرأى الآخر. وليست تلك المفارقة الوحيدة، لأنه لابد أن يثير انتباهنا أنه إلى جانب الضيق المعلن بالرأى الآخر، فإن الخطاب السياسى يحذر من أثر ذلك القدر المتواضع على إرادة المجتمع المصرى، الذى يوصف بوفرة وعيه وذكائه وقدرته على التمييز. ذلك أن الشعب الواعى والذكى القادر على التمييز لا تنطلى عليه ولا تفت فى عضده، أية دعايات مغرضة خصوصا إذا كانت نسبتها بذلك التواضع الذى أشرت إليه، وحين يطلق الحكم بتلك الصيغة فإنه يفسر بأحد احتمالين، الأول أنه يعبر عن عدم الثقة فى وعى الشعب وذكائه، أما الثانى فخلاصته أن الرأى الآخر ليس محل استنكار من جانب الشعب الواعى، ولكن أجهزة السلطة ومؤسساتها هى التى تستنكره وتضيق به، لكنها لا تريد أن تجهر بذلك، ومن ثم نسبت الضيق إلى المجتمع وليس إليها.
لا أستبعد الاحتمال الأخير، لأن قبضة السلطة ممثلة فى أجهزتها السيادية شملت الأغلبية الساحقة من مؤسسات الدولة المنتخبة والمستقلة. (مجلس النواب شاهد ملك على ذلك) . ولم يتبق خارج السيطرة إلا تلك النسبة التى لا تتجاوز ١٠٪ من وسائل الإعلام المكتوب، التى تشمل المواقع الإلكترونية أيضا، لذلك فإن الضغوط مستمرة لإلغاء ذلك الهامش والعودة إلى التأميم الفعلى للصحافة، الذى يمكن أن يتم بوسائل أخرى، وهو المعنى الذى ذكرته فى مقام سابق.
أشرت فى مستهل هذا النص إلى دلالات أربع لفكرة اعتبار النقد من قبيل التشكيك الذى يستهدف هزيمة الإرادة المصرية، إلا أن أخطرها من وجهة نظرى الآن أمران هما: اعتبار النقد عملا شريرا هدفه الهدم وليس التصويب أو البناء، وذلك أمر لا يحذر أو يهدد أصحاب الرأى الآخر فحسب، ولكنه أيضا يشوه الإدراك العام ويمهد لتعميم صيغة الرأى الواحد، الأمر الثانى أنه يصادر فكرة إجراء أى حوار موضوعى حول القضايا محل الخلاف، بحيث يصبح محور الخلاف هو نوايا صاحب الرأى الآخر وليس قوة حجته أو ضعفها.
فى الأثر أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب كان يحث الآخرين على نقده ويقول: «رحم الله امرأ أهدى إلى عيوبى». وألح ذات مرة على سلمان الفارسى أن يدله على ما سمعه عنه مما يكرهه، وحين طلب الصحابى الجليل أن يعفيه من الإجابة عن السؤال، فإنه ألح عليه فيه. فقال سلمان بلغنى أنك جمعت بين إدامين (وعاءان مليئان بالطعام) على مائدتك، وأن لك حلتين إحداهما للنهار وأخرى لليل، لم يجد الصحابى فى سياسة ابن الخطاب ما يعيبه، فنقل إليه ملاحظته على ما سمعه عن سلوكه الشخصى.
لا أتوقع من وزير الأوقاف أو حتى شيخ الأزهر دعوتهما خطباء المساجد لكى ينقلوا إلى السلطة ما يكرهه الناس منها، فذلك يعد تدخلا محظورا فى السياسة، أما شق تفريعة قناة السويس وذكرهما تأسيسها فهو مباح ويعد فى نظرهما من «صحيح الدين».
إن مهمة الرأى الآخر هى التنبيه والتنوير، وتلك إحدى الوظائف الرئيسة للإعلام، لذلك أزعم أنه لا يشرف زماننا كثيرا أن تطلق دعوات البعض لإسكات الأصوات الداعية إلى إجهاض تلك المهمة، ومن نكد الزمان أن نضطر إلى استدعاء الحجج، للدفاع عن أهمية الرأى الآخر الذى يصوب ويبنى للمستقبل، باعتبار أن ذلك أمر بديهى صار مسلما به، خصوصا أن اختلاف الناس فى الرأى سنة إلهية. الأمر الذى يسوغ لى أن أقول إنه ما أفلح قوم صودر الرأى وضاع الحق بينهم.