أكاد أجزم أن الخسائر الأميركية في الثورة الشامية لا تضاهيها خسائر الدول المعنية مجتمعة، وأكاد أجزم أن واشنطن أكبر الخاسرين بسبب مواقفها المتقلبة والمتآمرة والمتواطئة بحسب تقييم الشاميين وغير الشاميين المعنيين بالثورة السورية لدورها، لنبدأ من الأرضية الأخلاقية التي تعلنها تاريخياً أميركا وهي الانتصار للديمقراطية وحقوق الانسان ورفض الاستبداد والتعامل بقوة وشراسة مع استخدام الأسلحة المحرمة دولياً، وهي قضايا أخلاقية تم انتهاكها من قبلها وبشكل يومي من أجل عصابة دموية مجرمة لم ترع إلاًّ ولا ذمة بمن يفترض أن يكون شعبها فتبين أنه أول وآخر أعدائها، ولم ترع ذمة حتى بجيرانها وبالعالم كله..
فكان التواطؤ الأميركي مع القاتل في الشام زلزالاً حقيقياً للأرضية الأخلاقية للسياسة الأميركية وتحديداً الدولية لا سيما بعد لحس الرئيس الأميركي باراك أوباما لخطه الأحمر حين تخطاه رئيس العصابة الأسدية بخنق 1400 طفل وشيخ وامرأة بغاز الأعصاب المحرم دولياً صبيحة 21-8-2013 والذي سيظل شبحاً يطارد أوباما وحكومته والإدارات الأميركية المستقبلية عن تراجع خطير في تعهداتهم السابقة، وعلى الرغم من تعهد رئيس العصابة برمي السكين الكيماوي من يديه بناءً على وساطة روسية إلاّ أنه واصل انتزاع سكاكين أخرى وواصل قصفه للمناطق السورية بالكلور السام دون حسيب ورقيب، وتشجعت على إثره روسيا حين قرر رئيسها بوتين بعد سبعة أشهر باقتحام القرم وضمها إليه متحدياً أميركا ورئيسها الضعيف المتردد، وهو ما برز تردده في سوريا، بسبب حربين خاضتها بلاده أخيراً في العراق وأفغانستان كلفته ستة ترليونات من الدولارات وهو ما يعادل ثلث الناتج الإجمالي لأميركا، أوصلت البلاد إلى أسوء حالة اقتصادية منذ ثمانين عاماً، لكن تلكؤه وتردده وتواطؤه في الشام لن يقارن بتينك الحربين.
مقابل ذلك بدأ الرئيس التركي رجب طيب أردوغان يبتعد عن أميركا ويشعر أنها تخلت عنه من أجل مليشيات كردية معادية للدولة التركية، وبالتالي ضحى أوباما بعلاقات استراتيجية مع تركيا مقابل حليف مليشياوي كردي، مثل هذا الوضع دفع أردوغان لإعادة اصطفافه من خلال زيارته إلى بوتين الأخيرة، وإن كان أردوغان يعي تماماً المرارات التاريخية بين روسيا وبلاده، ولكن المناكفات السياسية التي يحتاجها البعض في ظروف عصيبة كهذه.
لم تفلح الإدارة الأميركية اليوم في الشام من نسج علاقات مع أي فصيل أو شريحة مجتمعية بسبب تخبطها وترددها في سياساتها، بينما السياسة الروسية واضحة وهي الاعتماد على الرصيد الاستراتيجي الأقلوي وتحديداً العلويين، والتمدد إلى خارجهم، بينما أميركا لا تعرف من هم حلفاؤها، فقد سعت إلى تدريب فصائل في الجيش الحر ثم تخلت عنهم، وتخلت عن تركيا حليفها التقليدي وبرز ذلك في دعمها أو صمتها أو.. على الانقلابيين وأقل شيء يقال في حقها أنها فضلت الانقلابيين والجنرالات على الديمقراطية والشعب التركي، وكان ذلك بارزاً من خلال انتقادها لطريقة تعامل الحكومة التركية مع الانقلابيين الذين قصفوا البرلمان ومبان حكومية، ورفضها تسليم فتح الله غولن للحكومة التركية وهو المتهم الرئيسي بالمحاولة الانقلابية الفاشلة..
غلاة الأكراد الذين سعت إلى نسج علاقات معهم على حساب الشعب السوري والحليفة تركيا ها هي تتراجع عنهم بعد الضغط التركي، وبالتالي من سيثق بأميركا بعد اليوم في المنطقة.. أكبر الأخطاء السياسية الدولية أن تتعامل بالآني على حساب البعيد، وتؤثر التكتيكي على الاستراتيجي، وتظن أن مصالحك على حساب حلفائك ستنجيك وتكسبك القوة، فاهتمامك بمصالح حلفائك أحياناً أهم من الاهتمام بمصالحك، فوقت الحصاد لا بد له من بذار،، ولا بد له ووقت وأجل، فلكل أجل كتاب ..