ما من أحد يمسك بزمام السلطة وهو ينتوي التخلي عنها)
“جورج أورويل- 1984”
1- طبيعة الأشياء وقوة الأشياء:
منذ البداية؛ كان السيسي يفهم جيدا أن أمامه طريقين للوصول للسلطة والاستمرار في الحكم:
أ- أن يحكم بطبيعة الأشياء:
بقبول جميع خصومه للموجة الانقلابية، والخضوع لها، ثم الترشح بشكل ديمقراطي بعد أن تكون كل الظروف تؤدي حتما إلى نجاحه هو فقط.
ب- أن يحكم بقوة الأشياء:
وهو ما لم يرد السيسي ومن ورائه الغرب حدوثه، رغبة منهم في الحفاظ على ديكور ديمقراطي يزيل عنهم الحرج!
وبرفض الرئيس مرسي الخروج بمقررات رئيس للجمهورية والخضوع لبلطجة السلاح التي قام بها السيسي، وبرفض الإخوان الاجتماع بالانقلابيين، وبرفض ملايين المصريين من أنصار الشرعية والتجربة الديمقراطية القبول بالأمر الواقع ففلم يعد أمام السيسي إلا الحكم بقوة الأشياء لا بطبيعة الأشياء.
انتقل السيسي من سيناريو الانقلاب الناعم (مثل الذي حدث في تونس) إلى سيناريو الصدمة والرعب، واتبع المثل الذي يقول: If you do something wrong, do it right (إذا فعلت شيئا خطأ فافعله بصورة صحيحة).
ولأنه يعلم أن قتل خمسمائة مثل قتل خمسة آلاف، في النتيجة السياسية والعقوبة الجنائية، فقام بفض رابعة والنهضة بوحشية غير مبررة، (كان يمكن فض الميدان بأعداد أقل من الضحايا)، وأطلق النار على مسجد الفتح في وضح النهار، وقتل الأسرى في سيارة الترحيلات، فلا حرمة للتظاهر السلمي ولا الأسير المقيد ولا دور العبادة!
***
2- برنامج السيسي: لا للإخوان.. وفقط!
ومنذ البداية كان السيسي يحكم وفق معادلة واضحة للغاية:
1- أنا أحكم لأني قائد الجيش ومعي السلاح
2- أنا أحكم لأني أجهضت مشروع الإخوان
وعند سؤاله في حملته الانتخابية عن البرنامج الذي يقدمه للمصريين، تضايق السيسي بشدة من مجرد السؤال، من طبيعة السؤال ومدلوله، وأجاب إجابة شديدة الوضوح: جايين دلوقتي تسألوني عن البرنامج؟؟
وفي سؤال آخر في نفس الفترة؛ هل ستسمح بوجود مكتب للإرشاد في مصر بعد انتخابك؟ أجاب السيسي بثقة وسعادة وكأنه ينتظر هذا السؤال: لا.. كده (أي قولا واحدا)!
لقد كان السيسي يفهم أن رأس ماله الحقيقي هو أنه أجهض تجربة ديمقراطية تأتي بالإخوان في كل استحقاق انتخابي، وفق الواقع السياسي الذي أثبت أن كفة الإخوان ترجحخ على كفة خصومهم، رغم الدعم المالي والإعلامي والاستخباراتي الذي يتلقاه خصومهم! وكان يعبلم أن هذه الإجابات تضمن له أصوات الكنيسة والفلول والعلمانييين وكثير من الذين تأثروا بالإعلام!
ورغم ذلك؛ كان السيسي حريصا بشكل ثانوي على الظهور وكأنه مهتمم بقضايا الناس وتقديم إنجازات لهم. (قناة السويس- المليون فدان – العاصمة الجديدة – المؤتمر الاقتصادي- المليون وحدة سكنية …إلخ)
ومع اتضاح أن كل تلك المشاريع فناكيش إعلامية، بدأ السيسي يتوسل للمصريين بصورة أقرب إلى التسول، مطالبهم بالتقشف والتبرع لبلادهم!
لكن حال المصريين تدهور بشدة بعد ثلاث سنوات على الانقلاب، وم يكن معهم ما يسدون به رمقهم! وبدأ الناس يتهامسون: لماذا لا نرى لواء بالجيش، أو قاض في محكمة ،أو نائبا في برلمان، أو ضابط شرطة يتبرع بمكافأة نهاية الخدمة أو براتب شهر للحكومة؟؟ لماذا لا يحاسب أحد السيسي، رغم قضايا الفساد التي فاحت روائحها وعرفها الجميع في جميع الوزارات؟؟ لماذا لم يتقدم السيسي حتى الآن بطلب لاسترجاع أموال مصر المهربة؟؟ أين أموال القروض والمنح التي انهالت على مصر “زي الرز” بعد الانقلاب؟؟
***
3- السيسي للمصريين: من أشد مني قوة؟؟
وحين فشل السيسي في إظهار حكمه وكأنه طبيعي، وفشل في استدرار عطف المصريين وهم يرون البذخ الذي يعيش فيه، عاد السسيسي للمعادلة الأولى التي وضعها منذ الانقلاب: أنا أحكم لأني معي القوة المسلحة. نقطة!
تكررر هذا المعنى في خطابات السيسي الأخيرة؛ فتارة يقول: “اللي حيقرب منها لاشيله من على وش الأرض” ، وتارة يقول “الجيش ممكن ينتشر في ست ساعات في كل أنحاء مصر”، وكأنه جيش احتلال، لا جيش يحمي الحدود، ويترك السلطة للشعب!
بالعربي الفصيح؛ لقد رمى السيسي طوبة السياسة والاقتصاد والمشاريع والرضا الشعبي المنهار والدعم الخارجي المتململ، وأعاد الموضوع لنقطة البداية: أنا أحكم بالقوة المسلحة، ومستعد لاستخدام هذه القوة حتى آخر طلقة!
لكن ما أغفله السيسي أن هذا الجيش ليسه جيشه، ولا يخلص له بقدر ما كان يخلص لمبارك! هذا الجيش يتبع وزارة الدفاع الأميركية البنتاجون حصرا منذ 1979، ولا أحد يعلم على وجه الدقة من يصدر الأوامر في الجيش! من أمره بعدم إطلاق النار في 2011، ومن أمره بإطلاق النار في 2013.
***
في مذكراتها “خيارات صعبة” حكت هيلاري كلينتون أنها كانت وقت الثورة مع الإبقاء على مبارك (من باب اللي تعرفه أحسن من اللي ماتعرفوش) ورفضت تنحيه (وبعدين يقولك هيلاري كانت مع الإخوان!!).
ورغم أن هيلاري كانت تشغل منصب وزيرة الخارجية الأميركية، أي المسؤولة الأولى عن العلاقات الخارجية لأميركا، فإن أميركا أيدت تنحي مبارك، ورفض الجيش إطاعة أوامره آنذاك بدك ميدان التحرير، لأن الجيش المصري لا يتبع الخارجية بل يتبع البنتاجون، وإذا تعارضت كلمة الخارجية مع البنتاجون فإن كلمة البنتاجون تمشي!
ورغم ذلك؛ يغتر السيسي بقوته، ولا يدرك أن الملك فاروق بكل قوته، لم يكن يعرف، حين تحرك ضباط من الجيش ضده في 1952، من الذي يقف وراء الحركة! اتصل فاروق وقتها بالسفارة الإنجليزية، ليصل إلى حل، كما حدث قبل عشر سنوات حين حاصرت الدبابات قصره في 1942، لكن السفير أخبره بهدوء أنهم لا يقفون وراء هذه المحاولة. تساءل الملك قلقا عمن يقف وراء الحركة، فقال له السفير بهدوء: الأمريكان .. يور ماجيستي! اتصل الملك بالامريكان فقالوا له: انتهى الأمر جلالة الملك!
***
ولا يحسبن أحد أننا نعول على عامل خارجي، ولا حتى على الجيش. وصدقوني لو قلت لكم أنه لولا الأسرى والمعتقلين لكان استمرار السيسي هو أفضل سيناريو للثورة! فاستمرار السيسي على هذا النحو يعني انهيارا أو انفجارا، ولا أحد يستفيد من انفجار الأوضاع أو انهيار النظام إلا الثورة والثوار!
السيي ينهي بيده أسطورة الحكم العسكري، ويزيل الهالة التي وضعتها الشؤون العسكرية على المخابرات والجيش، ويجعل مؤيديه يتأكدون، يوما بعد يوم، أنهم ارتكبوا أكبر خطأ في تاريخهم حين أيدوا الانقلاب، واقترفوا أعظم ذنب في دنياهم حين رقصوا على الدم، وفرحوا بالقتل وغنوا تسلم الأيادي! يطلب “الفكة” من الفقراء بينما يزيد كل شهر من مرتبات الجيش والشرطة والقضاء بالآلاف، ويشتري الرافال، وطائرات رئاسية…إلخ !
لقد تكشف التقشف الذي يدعو إليه السيسي! إنه تقشف الفقراء ليزدادوا فقرا، من أجل الأغنياء كي يزدادوا غنى! وتسلطن السلطان مطمئنا بقوته العسكرية، ولسان حاله يقول كما قالت عاد من قبل:
(من أشد منا قوة أولم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة وكانوا بآياتنا يجحدون) فصلت 15
إن السيسي لا يتعمد تقليب الرأي العام عليه، لكنه غير حريص في المقام الأول على إرضاء هذا الرأي العام! كل ما يستند إليه السيسي هو قوته المسلحة، وها هو يعترف بذلك بعد أن تمحك كذبا لفترة طويلة في الرضا الشعبي عن انقلابه! القوة المسلحة مهمة لكن لم يوجد حاكم في التاريخ حكم بالقوة المسلحة فقط، مالم يتم قبول شعبي بهذه القوة، بتحويل الحكم من قوة الاشياء إلى طبيعة الأشياء، وهو ما يفشل فيه السيسي فشلا ذريعا!