لم تكن حرب الساس من تشرين الأول/ أكتوبر 1973 مجرد حرب ضد عدو استراتيجي لاسترداد أرض وثأر لعرض وكرامة، ولكنها كانت بعثا لروح أمة بأكملها، وفتحا لباب أمل نحو طريق عودتها.
لم يكن لمصر والأمة العربية والإسلامية من خيار سوى خوض غمار هذه المعركة العظمى، وصنع لحظة تاريخية فارقة في تاريخ الصراع مع الكيان الصهيوني، فكانت هذه الحرب التي مثلت انفجارا مدويا في موازين القوة الدولية، وحدثا تاريخيا وانقلابا شاملا بعد مرارات هزيمة حزيران/ يونيو 1967.
لقد كانت حرب السادس من تشرين الأول/ أكتوبر حدا فاصلا في تاريخ عدو متغطرس زلزلت كيانه وصدعت أركانه، وأسقطت استراتيجيته الإقليمية ونظرياته الأمنية، وعلى الجانب الآخر كان لها أبلغ الأثر على مستقبل الأمة العربية، فبعثت فيها الأمل من جديد وكانت في وقتها خطوة هامة في مشروع تحرير الأقصى.
إدعاءات الهزيمة في حرب تشرين الأول/ أكتوبر
رغم مرور عقود على حرب تشرين الأول/ أكتوبر 1973، إلا أنه كلما جاء ذكر هذه الحرب أو حلت ذكراها؛ يثور تساؤل لدى نفر ممن لم يعايشوا زمنها حول ما إذا كانت نصرا أم هزيمة، حتى أصبح هناك منذ فترة بعض الأصوات ممن يروجون مقولة أن هذه الحرب كانت هزيمة لمصر والأمة العربية، ومستندين في ذلك إلى آراء نقدية صاحبت شهادات بعينها عن ظروف هذه الحرب – خاصة ثغرة الدفرسوار – متخذين من ذلك تكأة لدحض حقيقة هذا النصر التاريخي في صراع الأمة مع الكيان الصهيوني.
ومن عجب أن البعض الذي يروج لهزيمة مصر في حرب تشرين الأول / أكتوبر يتبنون هذا الادعاء انطلاقا من رفضهم لنظام الحكم العسكري والمؤسسة العسكرية المصرية، خاصة بعد التحول الدراماتيكي الذي شهدته مصر بعد الثالث من تموز/ يوليو 2013، والانقلاب في العقيدة الاستراتيجية للنظام منذ تولي السيسي رأس الدولة المصرية والانقلاب على الرئيس المنتخب وتغول العسكر – الذين لم يشارك أحد منهم في الحرب – في الحياة السياسية، مما أدى إلى تدهور الأوضاع في مصر على النحو الذي يعيش المصريون الآن آثاره ومراراته على مختلف الأصعدة.
لم يكن نصرا لجيش ولكن كان نصرا لإرادة شعب وأمة
مما لا شك فيه أن النظام العسكري الحاكم بعد نصر تشرين الأول / اكتوبر 1973، وتدرجا على مدار عقود، اتخذ من هذا النصر مدخلا لهيمنة النظام ووتوسيع نفوذ المؤسسة العسكرية في الحياة المصرية وإضفاء قدسية عليها، مما جعل المؤسسة تحيد عن مسيرتها ووظيفتها – التي تجسدت في حرب تشرين الأول/ أكتوبر- انتهاءً للوضع الحالي. غير أن ما حدث لا يجعلنا نهيل التراب مكايدة أو دون وعي وبفهم مغلوط على نصر تاريخي ونروج نفس ما يروجه عدونا الاستراتيجي.
لقد نسي هؤلاء أن هذه الحرب لم تكن حرب جيش أو مؤسسة عسكرية، ولكنها كانت حرب شعب وأمة بأكملها، وأن النصر في هذه الحرب لم يكن نصرا لجيش، ولكن كان نصرا لإرادة شعب وأمة. وإذا كان من حق أي جيش أن يفتخر بنصر حققه، فإن النصر مرجعه ليس لجيش مسلح وحده يخوض غمار الحرب على جبهة القتال المباشر، ولكنه نصر لم يكن ليتحقق لولا جيوش الشعب التي تماسكت في الجبهة الداخلية وعلى جبهات أخرى، وخاضت معارك طويلة، ربما أكثر خطورة من الالتحام المباشر للجيش المسلح في جبهة القتال.
كانت هزيمة لنا ونصرا لهم هكذا يروج العدو!
على مدار أكثر من أربعة عقود بذل الكيان الصهيوني وما زال؛ جهودا غير مسبوقة ليخلخل وعينا وثقتنا بحقيقة هذا النصر، وليرسخ أن هذه الحرب كانت هزيمة لنا ونصرا لهم، هكذا يروج العدو لشعبه وللعالم.
ورغم مرور اكثر من أربعة عقود، إلا أن الإسرائيليين ما زالوا منشغلين بهذه الحرب التي تركت آثارا نفسية قاسية على الكيان الصهيوني حتى اللحظة، لذلك جيشوا جيوشا من الإعلاميين والكتّاب لمحو آثارها وللتحقير من النصر وجعله نصرا محدودا، حتى وصلوا إلى جعله نصرا لهم.
في تشرين الأول/ أكتوبر 2014؛ كتب المعلق الإسرائيلي يسرائيل هرئيل في جريدة هآرتس الإسرائيلية ما نصه “انتصار غير مسبوق وإنقاذ الدولة كنتيجة لتضحيات الجنود والقادة؛ فقد كانت الرواية الحقيقية لهذه الحرب، ولكن في الحقيقة الرواية الكاذبة والمتلاعب بها تجذرت في الوعي الإسرائيلي، حيث يجب إعادة صياغة هذه الرواية من جديد فبعد 40 عاما من جلد الذات حان الوقت للتخلص من فكرة الصدمة النفسية التي زعزعت ثقتنا بأنفسنا وحياتنا، علينا أن نتخلص من الرواية الكاذبة وأن نجذر في أنفسنا الرواية العادلة والتفاؤلية”.
وعلى نفس خط المعلق العسكري هرئيل، يواصل الكاتب الإسرائيلي يؤاف شاحام قائلا: “في مصر ما زال يعتبر هذا اليوم السادس من شهر تشرين الأول كيوم عيد، وفي إسرائيل يعتقد الكثيرون رويدا رويدا أنه بالرغم من الألم الذي لحق بهم في هذه الحرب فإنها ليست مبعثا للخجل، ولكن للفخر. في الواقع لا يبدو أن المسيرات كتلك التي حدثت في مصر من شأنها أن تحدث في شوارع القدس وتل أبيب، لكن بعد 41 سنة بدأت هذه الصدمة تترك مكانها في القلوب”.
هكذا يروج الإسرائيليون لنصر أكتوبر أنه لهم وليس لنا، ليزيلوا ذكرى الانهيار الذي سببه نصر تشرين الأول/ أكتوبر 1973 .ففي واحد من مستندات أرشيف حرب أكتوبر، والتي تم نشرها في إسرائيل سنة 2014، في الذكري الواحدة والأربعين للحرب، يصف يرمياهو يوفال، أحد الضباط الإسرائيليين، ما شهده في سيناء أثناء الحرب؛ بأنه كان مأزقا منذ اليوم الأول للجيش الإسرائيلي، حيث تعرض لضربات قاتلة من قبل الجيش المصري، مضيفا: “شهدت إنجازات الجنود المصريين وهزائم مرّة للجنود الإسرائيليين”، وواصفا ما شاهده في اليوم الأول بأنه كان انهيارا حقيقيا. وأضاف: “كنا ببساطة نفر من أمام الجنود المصريين وذيولنا بين أرجلنا كالكلاب وبالنسبة لي كانت هذه لحظة مؤسسة”.
ولكن في بيان حقيقة النصر وادعاءات الهزيمة؛ ما زال للحديث بقية نكمله في مقال تالٍ.