في مصر سفير بريطاني نشط على “تويتر”، ومتابع دؤوب لوسائل الإعلام المصرية، ومشتبك مع الحياة اليومية، بما تشمله من مسلسلاتٍ دراميةٍ، ومناكفات بين جمهوري الأهلي والزمالك، ولا شك أنه قد وصل إلى مسامع السفير ما يزعمه أوباش الإعلام أن بريطانيا تقرّ وتشرعن التصفية الجسدية للمواطنين البريطانيين، بالطريقة التي يمارس بها نظام عبد الفتاح السيسي جرائمه في قتل الخصوم والمعارضين.
نريد من سفير بريطانيا أن يدلي بدلوه في هذه المسألة، ويخبرنا هل فعلاً قرّرت رئيسة الحكومة البريطانية اعتماد أساليب القتل والتصفية، من دون تحقيقاتٍ ومحاكمات، أم أن ما سمعناه، وسمعه السفير بالضرورة، هو محض هلاوس فاشية، وضلالات عنصرية وضيعة.
فإن كانت الأولى، فحريّ بالسفير البريطاني أن يوجه رسالة تهنئة إلى السلطات المصرية على نجاح عمليتها الإجرامية في تصفية اثنين من قيادات “الإخوان المسلمين”، قتلا بالرصاص في مسكنهما، وينقل تحيات حكومته، واحترامها هذا الإرهاب الذي تمارسه شبه دولة.
أما إذا كانت الثانية، فلا يليق أن يصمت السفير على وصم بلاده التي تعد من أعرق ديمقراطيات العالم احتراما للحق في الحياة والعدالة، بأنها دولة قاتلة، مثل شبه دولة عبد الفتاح السيسي التي تقتل مواطنيها، ثم تدّعي أنها تفعل مثل بريطانيا.
لا يمكن أن نطالب السفير بأن يكون مصرياً أكثر من المصريين، ويعلق على المقتلة الدائرة في مصر ضد المعارضين، خصوصاً أن الأمر لم يحرّك مشاعر القوى السياسية والأحزاب المصرية ذاتها، باستثناءاتٍ محدودة للغاية، سطع فيها الموقف الأخلاقي والإنساني الجدير بالاحترام لحزب الوسط الذي كانت له الريادة في تسجيل موقفٍ متحضّر، بإصداره بياناً يدين فيه عمليات القتل والتصفية التي تمارسها السلطة ضد معارضيها.. وهو الموقف الذي دفع حزب “مصر القوية” لمحاكاته، بعد أكثر من سبع ساعات على صدور بيان”الوسط” المعلن عقب الإعلان عن المجزرة.
على مستوى آحاد النخبة السياسية، صمت الجميع، باستثناءاتٍ محدودةٍ للغاية، منها تعليق مقتضب للناشط السياسي خالد علي، وتعليق مسهب وأكثر وضوحاً ومباشرة لأستاذ الجامعة الدكتور يحيى القزاز، على موقع “فيسبوك”، حذّر فيه من أن الصمت على مقتلة الخصوم السياسيين سيجعل جميع معارضي النظام في قبضة التصفية الجسدية، والقتل خارج القانون.
تفرض المقارنة نفسها هنا بين ردود أفعال الكيانات والنخب السياسية على جريمة تصفية الباحث الإيطالي جوليو ريجيني وذبح القياديين الإخوانيين، محمد كمال وياسر شحاتة، داخل شقة سكنية في قلب القاهرة.
الجريمة واحدة والأسلوب واحد، والمجرم أيضاً واحد، والاختلاف الوحيد في هوية الضحايا، فالأول باحث إيطالي شاب، عاش في القاهرة، واختلط بدوائر من الناشطين السياسيين من اليسار والليبراليين، والآخران مصريان ينتميان إلى جماعة الإخوان المسلمين.
مع جوليو ريجيني، انتفض المجتمع المدني المصري على هذه الهمجية المعبرة عن إرهاب السلطة، وأعلن الاتحاد الأوروبي الاستنفار ضد هذه الجريمة ضد الإنسانية، واشتغلت الميديا العالمية على القضية، ولا تزال، حتى اليوم، وشهدت مصر وقفاتٍ بملابس الحداد ترفع شعار”جوليو مننا اتقتل زينا”. أما في حالة محمد كمال وياسر شحاتة، فالموقف أشبه بصمت القبور، وكأن الجميع رضخوا للمعادلة التي كرّسها نظام عبد الفتاح السيسي، منذ وصوله إلى الحكم سيراً فوق الدماء والأشلاء، بحيث إذا كان القتيل من “الإخوان”، فلا أحد يهتم أو يبكي أو يغضب، أو يستشعر أن الإنسانية مهدّدة، وإن توعك أحدٌ من خارج دوائر “الإخوان”، فتلك هي المأساة الإنسانية الكاملة، فتنتفض الضمائر، ويشتعل سباق الوسوم والحملات على “السوشيال ميديا”، وتسيل الدموع أنهاراً ضد الظلم والقمع والإرهاب السلطوي.
وحدها ضربت السيدة باولا ريجيني المثل في استقامة الحس الإنساني، ونزاهة الضمير، حين أطلت من فاجعة مقتل ابنها على فواجع قتل الإنسان المصري، من دون التوقف عند معتقده الأيديولوجي، أو انتمائه السياسي.
ويبقى أن هذا الحزن “الشوفيني” المؤدلج هو ما يتغذّى عليه النظام، ويستخدمه وقوداً لآليات إرهابه، منذ ادّعى الضمير الثوري الخرس، مبكّراً للغاية مع مذبحة نادي الحرس الجمهوري، يوليو/ تموز 2013، ويمكنك أن ترجع إلى أبعد من ذلك، حين اكتست ردود الأفعال بالشوفينية ذاتها، مع وقوع مذبحة “ماسبيرو” في أكتوبر/ تشرين الثاني 2011، ولا تزال الشوفينية مستمرة.