يدخل مصري إلى إحدى عربات مترو الأنفاق، يحمل بيده عصا يتوكأ عليها، يخبر الركاب بأنه عامل في مجال المعمار، أصيب بعاهة أثناء عمله، ولم يعد قادرا على الكسب، ولذا يطلب المساعدة.
هذا الرجل وغيره الملايين من المصريين، بحسب الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء، حكومي، أصبحوا مطالبين بتحمل تبعات ومطالب اشترطها صندوق النقد الدولي على مصر للحصول على الشريحة الأولى بقيمة 2.5 مليار دولار من إجمالي القرض البالغ 12 مليار دولار الذي اعتبره خبراء الفرصة الأخيرة للنظام لإنقاذ اقتصاد البلاد المنهار.
وتوصلت مصر لاتفاق مبدئي على مستوى الخبراء مع صندوق النقد الدولي للحصول على قرض بقيمة 12 ملياراً ضمن حزمة تمويلية قدرها 21 مليار دولار.
واشترط الصندوق للموافقة على القرض تنفيذ عدة إجراءات اقتصادية سريعة، من بينها جعل أسعار الصرف مقابل العملات الأجنبية أكثر مرونة، ورفع الدعم عن الطاقة، وزيادة الإيرادات.
كان المصريون على موعد جلل، حيث استيقظوا صباح الثالث من نوفمبر الجاري على قرار للبنك المركزي بتحرير سعر صرف الجنيه وتركه للعرض والطلب (تعويم العملة المحلية).
ووضع المركزي المصري سعرا استرشاديا للبنوك بنحو 13 جنيها مقابل الدولار كبداية للتداولات إلا أنه لم يلبث أن تخطى الـ 15.5 جنيه في نهاية تداولات أمس الأول وأمس.
وتنتاب جموع المصريين مشاعر خوف من “مصير مجهول” وموجة غلاء علت وتيرتها خلال الشهور الماضية، منذ الخفض الكبير للعملة المحلية بنحو 14% في منتصف مارس الماضي، ورفع أسعار الكهرباء وتطبيق ضريبة القيمة المضافة.
وبعد قرار التعويم، الذي طال انتظاره وتوقعته بنوك استثمار عديدة، خلال الفترة الماضية، قررت الحكومة المصرية رفع أسعار المحروقات بنسب ما بين 30 إلى 46.8 % في مساء اليوم ذاته.
ويتفاقم الشعور بالقلق بعد قرار تعويم الجنيه المصري، وخاصة على محدودي الدخل، وسط توقعات بارتفاع أسعار السلع المستوردة والمحلية على حد سواء في البلد الذي يستورد أكثر من 70 % من احتياجاته من الخارج.
ومن شدة هول اليوم وصفه الكثيرون بـ “الخميس الأسود” حيث انتشر الوصف على نطاق واسع ليعبّر عن حال المصريين الذين يشكون منذ فترة من موجة غلاء قصمت ظهورهم، إلا أن الحكومة وعبر قرارات اقتصادية جديدة وصفها خبراء بـ”المؤلمة” تجاوزت ظروف وحال الكثيرين في البلد الذي تخطت نسبة الفقر فيه أكثر من 27% حسب إحصاءات رسمية.
وشهدت مصر ارتفاع معدل التضخم السنوي في أسعار المستهلكين إلى 16.4% خلال أغسطس/ آب الماضي، وهو الأعلى في غضون ثمانية أعوام.
الحكومة المصرية تعتبر أن موافقة الصندوق على القرض بمثابة شهادة ثقة للاقتصاد وتصنيفه الائتماني، وأنه يسير على الطريق الصحيح نحو التعافي من الاضطرابات التي ألمت به خلال السنوات الست الماضية.
الأكاديمي المصري، محمد رضا، يرى أن قرض صندوق النقد الدولي الفرصة الأخيرة للنظام وهو “السبيل الوحيد لإنقاذ الاقتصاد بعد وصوله إلى حالة هي الأسوأ في تاريخه ولكن الأسوأ هو تأثيراته السلبية على المواطنين وخاصة محدودي الدخل”.
وأضاف رضا للأناضول أن الاقتصاد المصري “يعاني من آلام حادة في كافة مفاصله أدت إلى شلل وإعاقة في كافة قطاعاته.. وزاد من تدهور الأداء الاقتصادي طريقة إدارة الحكومات المتعاقبة”.
واعتبر رضا أن الحكومات المتعاقبة في مصر تعاملت مع الأزمات الاقتصادية عبر “فرض الضرائب والاستدانة مع سياسات نقدية خاطئة في إدارة الاحتياطي النقدي وأسعار الفائدة وتحديد سعر الصرف حتى وصلنا إلى مرحلة هي الأسوأ على الإطلاق”.
ومضى قائلا: “ومع التدهور المتوالي للأوضاع ونزيف الاحتياطي النقدي وتفاقم الدين العام وتوقف المساعدات الخليجية وتراجع النظرة المستقبلية لمؤسسات التصنيف العالمية، أصبح السبيل الوحيد هو اللجوء لمؤسسات التمويل الدولية لمواجهة الواقع الاقتصادي”.
ويرى رضا أن انعكاس هذه الإصلاحات “سيأتي بالسلب على المواطن بدفع ضرائب أكثر، وغلاء أسعار أكثر، وخدمات بسعر أكبر في ظل انعدام رقابة الحكومة على الأسواق وانعدام السيطرة على جشع التجار وفي ظل الانخفاض الكبير لقيمة الجنيه سيكون الأمر مؤلما جدا على الطبقات الأكثر فقرا”.
مدحت نافع، أستاذ التمويل المصري اتفق مع الطرح بأن القرض فرصة سانحة لاستعادة الثقة والسير وفق برنامج تلتقي إحداثياته مع برنامج إصلاحي محلي الصنع، لكنه قال إن “الأثر المباشر لارتفاع أسعار مواد الطاقة عادة ما يكون تضخميا بالنسبة لمختلف الأسعار نظرا لارتفاع تكاليف النقل، بالإضافة إلى تداعيات تحرير سعر الصرف”.
وأضاف نافع للأناضول أن “الحكومة تراهن على أن ارتفاع أسعار الفائدة على الودائع بالبنوك إلى 15% سيتعامل مع الأثرين التضخميين دفعة واحدة وهى مجازفة قابلة للرصد واتخاذ القرار المناسب إن لم يقبلها السوق”.
وأوضح أن هذا أيضا يستدعي تحركا عاجلا فيما يتعلق بشبكة الضمان الاجتماعي لاحتواء الأثر السلبي على الطبقات الأشد احتياجا.
ويوجد بمصر برنامج “تكافل وكرامة” بهدف حماية الفقراء من خلال مساندة الدخل، ويستهدف ملايين الفقراء في ربوع البلاد.
ويرى استاذ الاقتصاد المصري شريف الدمرداش، أن القرارات الاقتصادية الأخيرة، “ستتسبب في موجة تضخم تتضرر منها الطبقة المتوسطة”، داعيا الحكومة إلى القيام بجهود استباقية لنزع فتيل التأثير الشديد عبر برامج حمائية وفرض رقابة صارمة للأسواق.
واعتبر الدمرداش في حديثه للأناضول أن توقيت رفع أسعار الوقود “خاطئ”، ورأى أن المسار الأفضل كان يقتضي الاتفاق مع صندوق النقد الدولي بأن يكون القرار لاحقا وليس سابقا للقرض.
وحث الخبير الاقتصادي الحكومة على التدخل لحماية المواطن بتحديد تعريفة للمواصلات التي ستكون معضلة خلال الأيام القادمة حيث سيرفع السائقون الأجرة، بعد رفع أسعار الوقود.
وارتفعت أسعار المحروقات وفق قرار للهيئة العامة للبترول (حكومية) وزعته على محطات الوقود، برفع سعر البنزين 80 أوكتين إلى 2.35 جنيه للتر بدلا من 1.6 جنيه بزيادة نحو 46.8 %، وسعر البنزين 92 أوكتين إلى 3.5 جنيه للتر من 2.6 جنيه بزيادة 34.6 %.
وارتفع سعر السولار، وفق القرار، إلى 2.35 جنيه للتر من 1.8 جنيه بزيادة 30.5 % بينما ارتفع سعر غاز السيارات 45.5 % إلى 1.6 جنيه للمتر المكعب من 1.1 جنيه.
وتنتشر دعوات عبر مواقع التواصل الاجتماعي وقطاعات من المصريين خلال الفترة الأخيرة، تطالب بالتظاهر يوم 11 نوفمبرالجاري، تحت عنوان “ثورة الغلابة (الفقراء)” ضد الغلاء، غير أنه لم تتبن أية جهة معارضة بارزة هذه الدعوة بعد.