بقلم: أحمد أحمد
إذا كانتْ الليبراليةُ تقوم على عاملينِ أساسينِ,وهما الحُريةُ والمساواةُ فإنَّ الإسلامَ قد أقرَّ هذه القيمَ الإنسانيةَ منذ قرونٍ عديدةٍ,وأرى أنَّ خلافَ الإسلاميينَ هذه الأيامِ هو خلافٌ إصطلاحيٌ إنما لو تأملوا المبادئَ الأساسيةَ التي يقومُ عليها هذا المنهجُ الإجتماعي السياسي لوجدوا أنَّ مضمونَ الليبراليةِ يتوافقُ إلى حدٍ كبيرٍ مع الإسلامِ وقيمِه وتعاليمِه الأخلاقية.
فالحُريةُ مثلاً مكفولةٌ للجميعِ في إعتناقِ ما يراه من الأفكارِ والروئ حتى لو كانتْ هذه الأفكارُ عفنةً وفاسدةً,ألمْ يقلْ اللهُ(فمنْ شاءَ فليؤمنْ ومَنْ شاءَ فليكفرْ) وهذا التخييرُ الرباني في الآية ليسَ المقصودَ به التخيير بين مبُاحينِ,ولكنَّه تخييرٌ دنيوي,وفي الآخرةِ سينالُ الكافرونَ حسابَهم المستحقَ وفقاً لقوانيينَ الآخرةِ التي تختلفُ عن قوانيينَ الدنيا لاريب.
وقد صاغَ الإسلامُ القاعدةُ الربانيةُ الأمُ في حريةِ الإعتقادِ ويتجلى ذلك في قولِ الله تعالى(لا إكراهَ في الدينِ قد تبيَّنَ الرُشدُ من الغيِّ),وهذا يعني أنه لا يجوزُ للمسلمينَ فرضَ عقائدهم على من لا يدينون دينَ اللهِ,فالحقُ أبلجُ لا يزيغُ عنه إلا عميانِ البصيرةِ,وكل ما يجبُ على المسلمينَ هو الدعوةُ والتبيانِ والنصيحةِ الخالصةِ لله ولرسوله(ما عليكَ إلا البلاغ),فالبلاغُ هو الأصلُ لا الإكراهُ,وإلا فلماذا لم يُفرضُ المسلمون الأوائلُ عقائدَهم على غيرِ المسلمينَ,ذلك لأنَّ العقيدةَ محلُّها القلبُ والعقلُ,ومِنْ ثمَّ ينبغي على صاحبِها الإقتناعُ والإيمانِ الجازمِ بأنَّ ذلك هو الحقَ من عندِ اللهِ,وإلا لَزلتْ جماعةُ المسلمين بابنِ سلولٍ جديدٍ.
ولكنَّ هلْ هذه الحريةُ مُطلقةً على العمومُ أم مُقيدةٌ؟
الليبراليةُ ترى أنَّ هناك نوعينِ من الحريةِ:الحريةُ الشخصيةُ والحريةُ الشخصيةُ في إطارِ المجتمع.
فأماَّ الحُريةُ الشخصيةُ فهي حقٌ لصاحبُها لا يُنازعُه فيها أحد,وأمَّا الحريةُ الشخصيةُ في إطارِ المُجتمعِ فهي تلكَ القوانينِ التي تحددُ سيرَ الفردِ بين الجماعةِ,وبالتالي فالحريةُ الشخصيةُ هنا فيما يخصُّ الفردَ نفسَه طالما لم يؤذِ غيرَه بأفكاره أو سلوكِه,وهنا تتبدى أهميةُ القانون الذي يُحددُ له دوره وواجباتِه وخطَّ سيرِه بين الناسِ.
وأظنَّ أنَّ هذا المفهومَ للحريةِ لا يختلفُ كثيراً عن الإسلامِ,فالإسلامُ كفلَ حريةَ الفردِ,ولكنَّها حُريةٌ مُقيدةٌ,لا مُطلقةٌ,أي فيما يتفقُ مع تعاليمِ الإسلامِ من السلوكياتِ,لأنَّ سلوكَ الفردِ لو شذَّ عن الجماعةِ قد يؤذيهم.
فهل يجوزُ مثلاُ للمرأةٍ أن تمشي في الشارعِ عاريةً؟
بالطبعِ لا يصحُّ هذا,لأنَّ هذا سيؤذي الناس.
أم هل يجوزُ للفردِ أنَّ يخدعَ الناسِ باسم الحريةِ؟
مما لاشكَ فيه أن هذه ليستْ الحُريةَ المُعناه.
وهكذا فيما يخصُّ السلوكياتِ,حتى لو مارسَ هذا الفردُ سلوكياتٍ مُغايرةً لتعاليمِ الإسلامِ,ولكنْ بشرطِ أن يكونَ ذلك بعيداً عن أعينِ الناسِ حتى لا يُخدشَ الحياءُ,وتتفشى الجرائم والآثامُ,وكلنا يعرفُ ما وردَ عن عمرَ رضى الله عنه حينما تسوَّرَ الجدارَ فاطَّلعَ على جماعةٍ يشربون الخمرَ,فأرادَ عمرُ ضبطَهم,فقال له عبدالرحمن بن عوفٍ رضى اللهُ عنه:أرى قد أتنيا ما نهانا اللهُ عنه فقال:(لا تجسسوا),فقد تجسسنا فانصرفَ عمرُ عنهم وتركهم.
أمَّا حريةُ الأفكارِ والمعتقداتِ فهي مكفولةٌ للفردِ رغماً عن أنفِ الجميعِ فمِن يدري ما يدورِ في رأسِ الآخرِ,فقد يكونُ المرءُ منافقاً,ولكنْ لا حيلةَ للجماعةِ معه,ولو كان الأمرُ كذلكَ لقتلَ النبيُّ صلى الله عليه وسلمَ منافقي المدينةِ,ولكنْ انظرْ ماذا قالَ حينما نصحه أحدُ صحابتِه بقتل بن سلولٍ,فقد قالَ:أتريدُهم أن يقولواْ محمدٌ يقتلُ أصحابَه!
وهنا أقرَّ النبيُّ صلى اللهُ عليه وسلمَ قاعدةً إجتماعيةَ ليبراليةً,ألا وهي لنا الظاهرُ واللهُ يتولى السرائرُ,فالسرُّ والحريةُ الفردية سواءَ كانتْ سلوكاً أو فكرةً مادامتْ بعيدةً عن إيذاءِ الآخرينَ فهي حقٌ لصاحبِها,واللهُ عز وجلَّ هو من يتولى حسابَه في الآخرة لا غيرُه.
وآخيراً فقد وضعَ اللهُ تعالى إطاراً لهذه الحرية حين قال(ما كان لمؤمنٍ ولا مؤمنةٍ إذا قضى اللهُ ورسولُه أمراً أن يكونَ لهم الخيرةُ من أمرِهم),وهذا يخصُّ المؤمنينَ,والإيمانُ أعلى درجةً من الإسلامِ إصطلاحاً,ومعنى الآيةِ هو الخضوعُ والإستكانةُ والإذعانُ لأوامرِ الله تعالى ورسولِه صلى اللهُ عليه وسلم,وليسَ معناها أن يفرضَ مجموعةٌ من الناسِ المعتقداتِ والسلوكياتِ على الآخرينَ باسمِ الدينِ.