بعد مرور ست سنوات على اندلاع ثورة 25 يناير، أصبح مبارك -الذي قامت ضده الثورة- حرًا بريئًا بحكم قضائي من قتل الثوار؛ بل ربما يكون مطالِبًا برد اعتبار عما أصابه خلال الست سنوات المنصرمة.
يومًا ما، أراد رئيس مصري محاكمة مبارك بمسحة ثورية ضمن إعلان دستوري وصفه البعض بالديكتاتوري، فأسس ما عُرف بـ”نيابة الثورة”؛ فنهضت في وجهه قوى ثورية نادت بإسقاط إعلانه الدستوري وبإسقاطه هو شخصيًا فيما بعد.
ويعقد خبراء مقارنة بين مصائر رؤساء الدول التي قامت فيها ثورات “الربيع العربي”؛ فكانت البداية من تونس التي هرب رئيسها من ثورة الشعب عليه إلى المملكة العربية السعودية، وفي ليبيا ثار الناس وتحولت ثورتهم إلى مواجهة عسكرية وقتلوا من رأوا فيه ديكتاتورًا ظالمًا، وفي اليمن ثار الشعب فهرب من ثورة الناس أيضًا؛ إلا في مصر، فقد بقي من ثار عليه الناس في بلده مواجِهًا المحاكمة دون التفكير في الهرب أو حتى الاعتذار للشعب.
فلماذا وثق مبارك كل هذه الثقة في احتمالية براءته وبقي في مصر رغم عديد الشواهد بفساده السياسي والمالي هو وأسرته؟ وما علاقة ذلك بمخطط لثورة مضادة عملت على مدار سنوات لإسقاط ثورة يناير وشيطتنها في عيون الشعب؟ أم أن رئيسًا خرج ضده البشر والحجر إلى الشوارع كان واثقًا في موقفه ونزاهته إلى هذا الحد فقرر التحدي والمواجهة؟ وما علاقة قضاة ووكلاء نيابة اعتلوا مناصبهم في ظل عهد مبارك وبمعايير ذلك العهد الذي أقل ما يقال عنه “عهد المحسوبية” بهذه البراءة؟
إنكار لثورة يناير
في تصريحات صحفية، اعتبر القيادي بحركة “6 أبريل” شريف الروبي الحكم “بمثابة عدم اعتراف بثورة يناير”، فيما رأى العضو السابق بحملة السيسي الانتخابية حازم عبدالعظيم أن الأمر “لا يعدو كونه مسرحية”.
دليل تواطؤ
من جانبه، رأى محمد القصاص، نائب رئيس حزب “مصر القوية”، حكم البراءة الذي حصل عليه مبارك تحصيلَ حاصلٍ، معتبرًا إياه “دليلًا على وجود تواطؤ لدى من تولّى السلطة بعد الثورة (المجلس العسكري) لإخفاء جرائم نظام مبارك”.
وشدد “القصاص” في تصريح صحفي على أن هذا الحكم “لا يؤثر على شرعية الثورة؛ كونها مستمدة من الملايين التي خرجت ضد مبارك وأنهت حكمه والتوريث لابنه، وهي تعلم أن المحاكمات مسرحية تناولت جريمة أو اثنتين، وتركت جرائم ثلاثين عامًا”.
ويرى القصاص أن “من يتحمل هذه النتيجة (هم) من تولوا السلطة عقب الثورة؛ ابتداء بالمجلس العسكري ثم نظام محمد مرسي الذي وضع تقرير تقصي الحقائق في الدرج، ثم نظام عبدالفتاح السيسي الذي أعاد المحاكمة وأكمل تواطؤ المجلس العسكري، والقوى السياسية التي شُغلت بخلافاتها بعد الثورة عن ملاحقة مبارك ونظامه”.
ويشير الحقوقي المعارض والقيادي بجبهة الضمير عمرو عبدالهادي إلى اعتبار الحكم “أمرًا متوقعًا”، مُرجعًا ذلك إلى أن “المحاكمة كانت بنظام مبارك وقوانينه بعد استئمان الشعب من لا يؤتمن على الثورة”.
ورأى أن “المسؤولية عن الوصول إلى هذه النتيجة مشتركة بين مختلف التيارات المؤيدة للثورة؛ إلا أن الكتلة المدنية تتحمل نسبة 75% من المسؤولية؛ نظرًا لتأييدهم الثورة المضادة في 30 يونيو 2013 وتحالفهم مع الفلول والانقضاض على الديمقراطية الوليدة بمصر”.
لا شيء يدعو إلى القلق
وفي السياق ذاته، قال عمرو عبدالرحمن، أستاذ السياسة بالجامعة الأسترالية بالكويت، في تصريحات خاصة، إن براءة مبارك ما هي إلا حلقة جديدة في دورة مكتملة للثورة المضادة من الطبيعي أن تمر بها.
وتابع: الثورة المضادة لها مكونات وعناصر، ومن أهدافها الرئيسة هدم ثورة يناير في فكر الشعب وإسقاط صورتها الإيجابية التي تكونت عنها في بدايتها؛ ولن يتحقق لها ذلك إلا بتبرئة رموزها كافة، وأولهم مبارك ورجال نظامه؛ وهو أمر بَدَهيّ ولا يدعو إلى الاندهاش، بل على العكس- والحديث لعبدالرحمن- لدلالته بأن الثورة المضادة تكتمل دورتها؛ وذلك من بواعث عودة الثورة الحقيقية مرة أخرى، على حد قوله.
محاولة فاشلة
ويقول عبدالهادي: “حاول الرئيس محمد مرسي محاكمة مبارك حينما شكل نيابة الثورة؛ إلا أن القوى الثورية تظاهرت لإسقاط الإعلان الدستوري الذي أصدره مرسي لتحقيق هذا الهدف، وأرجو أن يطول عمر مبارك حتى يحاكم بقوانين الثورة لا بقوانين النظام”.
تعثر يناير
من جهة أخرى، يرى القيادي بتحالف العدالة الاجتماعية المحامي أسعد هيكل أن “الحكم يمثل عنوانًا واضحًا لتعثر ثورة 25 يناير وعدم تحقيق الأهداف التي انطلقت من أجلها، وفي مقدمتها إقامة عدالة اجتماعية حقيقية بمصر”.
ولفت هيكل في حديث له لموقع “الجزيرة نت” إلى أن مما ساعد على ذلك “كون المحاكمة جنائية وافتقرت إلى تعاون أجهزة الدولة مع سلطات التحقيق منذ بداية القضية، وتأخر تقديم مبارك للمحاكمة عدة شهور بعد خلعه عن الحكم”.
ويضيف هيكل: “مبارك وأولاده وكثير من رموز حكمه صدرت ضدهم أحكام نهائية أيدتها محكمة النقض، وصَمَتْهم بالفساد والاستيلاء على المال العام، وأفقدتهم اعتبارهم وجردتهم من مباشرة أي حقوق سياسية”.
ويعتبر هيكل أن “إعادة محاكمة مبارك على الجرائم ذاتها التي صدرت فيها أحكام نهائية أمر غير جائز قانونًا، وفقًا لمبدأ عدم جواز محاكمة المتهم عن جريمة واحدة مرتين؛ لكن من الممكن محاكمته في قضايا فساد أخرى أمام سلطات التحقيق المختصة”.
وأدين مبارك بقتل متظاهري الثورة وحُكِم عليه بالسجن المؤبد في يونيو 2012؛ إلا أن محكمة النقض ألغت الحكم وأمرت بإعادة المحاكمة أمام دائرة أخرى قضت بعدم جواز نظر الدعوى الجنائية ضده، إلا أن النيابة طعنت أمام محكمة النقض التي قررت إعادة المحاكمة مرة ثانية، ثم جاءت تبرئته بشكل نهائي من قتل المتظاهرين الخميس الماضي.
ولم يستبعد محللون أن يبادر النظام الحالي بعد تبرئة مبارك بتوجيه اتهامات جنائية إلى رموز ثورة يناير بـ”السعي إلى قلب نظام الحكم وتعطيل الدستور والقانون وقتل المتظاهرين وحرق الممتلكات والمنشآت العامة والاعتداء على نظام الدولة”، من خلال تحريك ما يعرف بالقضية 250 التي تضم رموزًا من قوى الثورة المختلفة.