انتظر أهل الموصل كثيرًا حتى بدأت معركة تحريرها من أيدي تنظيم الدولة، بعدما روّج النظام العراقي لأهميتها قبل انطلاقها بأشهر عديدة؛ إلا أنه، ومع بداية المعركة، بدأت الأخبار تتواتر عن فرار مدنيين من مواقع قتال ليلاقوا الموت في الطرقات على يد الجيش العراقي أو تنظيم الدولة.
كما بدأت الصورة في الاتضاح شيئًا فشيئًا: مجازر بشرية، إبادة للمدنيين، قصف لمنازل بطائرات متطورة، في ظل غياب خطة لحماية المدنيين؛ وأصابع الاتهام تشير إلى الجيش العراقي.
ومع خروج أسامة النجيفي، نائب الرئيس العراقي، على الرأي العام بقوله إن “حسابات سياسية تقف وراء المجازر التي شهدتها الموصل، أثيرت عديد من التساؤلات؛ خاصة مع تأكيد إعلاميين عراقيين وأجانب أن الجيش الحكومي أصدر قرارًا بمنعهم من تغطية المعارك غربي الموصل بعد اكتشاف وقوع مجازر فيها”.
فماذا وراء محاولات الحكومة العراقية التعتيم على مجازر الموصل وتصريحات نائب الرئيس عن “حسابات سياسية” وراء ما حدث فيها؟
تغيير قواعد الاشتباك
وفي هذا الصدد، قال الخبير العسكري والاستراتيجي العراقي العقيد حاتم كريم الفلاحي إن الخطة العسكرية لاستعادة الموصل من قبضة تنظيم الدولة كان يفترض أن تحسب حساب المدنيين، مشيرًا إلى أن تصريحات رئيس الوزراء حيدر العبادي بأنه أعطى الأوامر للقادة العسكريين بتغيير قواعد الاشتباك تؤكد أن قواعد الاشتباك كانت مفتوحة وأطلقت العنان للقادة العسكريين باستخدام مختلف أنواع الأسلحة.
وأكد في تصريحات تلفزيونية أنه عندما تفشل القطاعات العسكرية في تحقيق تقدم ملموس على الأرض فإنها تلجأ إلى استخدام الأسلحة التدميرية، مبينًا أن الكارثة الكبرى هي أن الحكومة لم تراع وجود المدنيين في الموصل، ولم تضع خطة مدنية وإغاثية لإيواء النازحين تواكب العملية العسكرية.
تبرير المجزرة
وقال إن الهدف من فتح تحقيق في مجزرة حي الموصل الجديدة (غرب المدينة)، التي راح ضحيتها عشرات المدنيين، هو تبرير المجزرة؛ باعتبار أن من يحقق فيها هو الخصم والحكم في آن معًا، وجميع المحققين مشاركون في هذه الجريمة.
ووصف الفلاحي ما يحدث في الموصل بأنه جريمة حرب متكاملة وإبادة جماعية لسكان الموصل، مبينًا أن منع الإعلام من دخول الجانب الغربي من الموصل دلالة واضحة على أن ما يحدث هناك هو جريمة إبادة بامتياز.
إبادة وتدمير
من جهته، وصف الباحث السياسي العراقي وليد الزبيدي ما يجري في الموصل، خاصة في جانبها الغربي، بأنه مجزرة بشعة؛ حيث قتل نحو أربعة آلاف شخص، وهناك ثلاثون ألف شخص بين قتيل وجريح منذ بدء معركة استعادة الموصل من تنظيم الدولة.
وقال إن طلب رئيس الحكومة حيدر العبادي من مواطني الموصل البقاء في بيوتهم ثم قصف قوات التحالف والقوات الحكومية العراقية وحشيًا للمدينة يؤكد وجود خطة واضحة وإصرار من قبل الحكومة العراقية والإدارة الأميركية على إبادة أبناء الموصل.
واتهم الزبيدي الحكومة العراقية والإدارة الأميركية باتباع أسلوب التدمير الكامل للموصل، مشيرًا إلى استخدام طائرات متطورة في قصف المدينة لإبادتها.
معركة نظيفة
في المقابل، دافع رئيس مركز التفكير السياسي في بغداد، إحسان الشمري، عن معركة الساحل الأيمن للموصل، واصفًا إياها بالمعركة النظيفة التي تهدف إلى تحرير إنسان الموصل وأرضها من قبضة تنظيم الدولة.
وقال إن الأرقام عن أعداد الضحايا الذين سقطوا في غرب الموصل مبالغ فيها وغير دقيقة، مشيرًا إلى أن خلية الإعلام الحربي هي المسؤولة عن تحديد هذه الأرقام وليست أي جهات أخرى، متهمًا تنظيم الدولة باعتماد سياسة الإبادة الجماعية لأبناء الموصل وارتكاب المجازر الجماعية بحقهم.
منع الإعلام
وحول منع الحكومة العراقية وسائل الإعلام من الدخول إلى الجانب الغربي من الموصل لنقل الحقائق، قال الشمري إن منع الصحفيين من التواجد في الخطوط الأمامية للمعارك تم منذ معركة الساحل الأيسر للمدينة، وليس الآن؛ وذلك حفاظًا على أرواحهم بوصفهم من المدنيين، مبينًا أن تعريض حياة الصحفيين للخطر أمر غير مقبول.
وقف العمليات
أعلن الجيش العراقي السبت الماضي وقف عملياته العسكرية بالجانب الغربي من الموصل بعد مجزرة حي الموصل الجديدة، وفُتح تحقيق بالمجزرة التي نفذتها طائرات التحالف الدولي بقيادة واشنطن، وسط قلق أممي من تزايد أعداد الضحايا المدنيين.
وقال متحدث باسم قوات الأمن العراقية إن القوات الحكومية أوقفت هجماتها لاستعادة الشطر الغربي من الموصل من تنظيم الدولة بسبب ارتفاع عدد القتلى والمصابين المدنيين.
وأمر وزير الدفاع عرفان محمود الحيالي بفتح تحقيق فوري في حادثة القصف الجوي التي جرت في حي الموصل الجديدة، بحسب بيان لوزارة الدفاع العراقية. بدوره، قال التحالف الدولي إنه فتح تحقيقًا في مقتل العشرات في غارة جوية نفذت بناء على طلب الجيش العراقي.
وقالت وزارة الدفاع الأميركية (بنتاغون) السبت إن مراجعة أظهرت أن التحالف الدولي استهدف -بطلب من قوات الأمن العراقية- مقاتلين وعتادًا لتنظيم الدولة يوم 17 مارس الجاري في موقع يتوافق مع مزاعم سقوط ضحايا من المدنيين.
4000 ضحية
كما أعلن المرصد العراقي لحقوق الإنسان أن ثلاثة آلاف و846 مدنيًا قتلوا في الجانب الغربي من مدينة الموصل منذ بدء العمليات العسكرية لاستعادته من تنظيم الدولة يوم 19 فبراير الماضي.
وأضاف المرصد (وهو هيئة مستقلة) أن هؤلاء من تم إبلاغ عن حالاتهم حتى الآن “وما زالت جثث أعداد كبيرة منهم تحت الأنقاض”.
وأشار المرصد إلى أنه جمع معلوماته عن أعداد القتلى من نازحين وفارين من مناطق النزاع والمناطق الخاضعة إلى سيطرة تنظيم الدولة، التي تعرضت على مدى الأسابيع الماضية إلى قصف الطائرات الحربية.
كيفية الاستهداف
سقط معظم المدنيين جراء غارات جوية استهدفت مسلحين للتنظيم كانوا يعتلون أسطح منازل؛ وهو ما يؤدي إلى انهيارها فوق رؤوس أصحابها، كما يسقط آخرون -حسب التقرير- بتحديد أهداف غير دقيقة للطائرات المقاتلة من قبل مخبرين على الأرض.
وفي هذا السياق، قال مسؤول محلي في البلدية السبت الماضي إن 240 جثة انتشلت من تحت الحطام جراء استهدافهم بضربة جوية في حي الموصل الجديدة.
وطالب المرصد الحقوقي القوات الأمنية العراقية بضرورة الاعتماد على مصادر دقيقة في تحديد أهدافها والتأكد من عدم وجود مدنيين محتجزين دروعًا بشرية في هذه الأهداف.
كما دعا التحالف الدولي والجهات الاستخبارية إلى تحديد أهداف التنظيم بدقة تامة لمنع تعرض المدنيين للخطر، مشددًا على ضرورة إعطاء سلامة المدنيين الأولوية في الطلعات الجوية التي يشنها ضد التنظيم.
وأعرب رئيس البرلمان العراقي سليم الجبوري عن قلقه البالغ بسبب “المأساة التي يتعرض إليها المدنيون في الجانب الغربي للموصل جراء القصف العشوائي”.