حين قال الرئيس المخلوع حسني مبارك (أنا أو الفوضى) لم يكن يهدد بإشعال فوضى مصطنعة، بل كان يقرر حقيقة يعلمها هو حسب فهمه لطبيعة الدولة المصرية، وحسب الترتيبات الإقليمية التي شارك هو ونظامه في صناعتها.
ولكن رد الشعب المصري العظيم كان بمنع الفوضى، فتمكن الناس من الاستغناء عن كثير من مؤسسات دولة مبارك الفاسدة، فتكفلوا هم بحماية أنفسهم باللجان الشعبية، واستمرت الحياة، ثم بعد ذلك وصلنا إلى مرحلة أخرى تمكن فيها الناخب المصري من إبداء رأيه، وكانت ثمار التجربة -في مجملها- جيدة.
بعد انقلاب الثالث من تموز/ يوليو 2013 تغيرت الأمور، ولكي نفهم ما الذي حدث لا بد أن نعرف أن الدولة المصرية سِرٌّ مغلق على من فيه، ولا أحد يرى الدولة كلها إلا قلة، فهي أشبه بتنظيم سري لا يفهمه حتى من هم جزء منه، فترى كثيرا من كبار رجالات الدولة لا يدركون كيف تعمل الدولة المصرية، وإنما يدركون الجزء الذي يعملون فيه فقط.
مبارك المخلوع قام بتفصيل الدولة على مقاسه (على المستوى الداخلي) عبر ثلاثين عاما من الإجراءات الاستثنائية، وقام بتوريط مصر على المستوى الإقليمي والدولي في مصائب ندفع ثمنها الآن.
فسدُّ النهضة.. هو أول من وقع ورقة تسمح بإنشائه، وثرواتنا من البترول والغاز هو أول من فرّط فيها، وما زالت الأحكام الناتجة عن اتفاقاته مع إسرائيل تتوالى علينا بغرامات وشروط جزائية بمليارات الدولارات.
هذه المقدمة أقولها لكي نفهم ما الذي يحدث الآن في المنطقة.
إن انهيار نظام حسني مبارك كان لا بد أن ينتج عنه إعادة صياغة للوضع الداخلي المصري، وكذلك إعادة تموضع للدولة المصرية إقليميا ودوليا.
حين حاولت الثورة أن تحكم كان من الواضح أن مصر -على المستوى الداخلي- في الطريق لحل مشاكلها الأمنية والاقتصادية رويدا رويدا.
أما على مستوى دور مصر الدولي والإقليمي فكان من الواضح أن مزاج القوى الدولية يتجه إلى الإيغال أكثر في المستنقع الذي دخل فيه مبارك.
تركة مبارك على المستوى الداخلي والدولي قد انتهت، لذلك أصبح صانع القرار المصري (عن سلطة الانقلاب أتحدث) أمام حالة فراغ، وهذه الحالة تم استغلالها لتركيع مصر إلى ما لا نهاية.
تأثير مصر الدولي والإقليمي كبير، إنها عِبَرُ التاريخ، وأحكام الجغرافيا!
لذلك.. ما يحدث الآن في المنطقة -خصوصا في ظل إدارة رئيس سفيه مثل “ترامب” ومعاونيه- هو أن المنطقة كلها يعاد التخطيط لها، بحيث تحقق المطامح والأغراض الأمريكية والإسرائيلية بلا مواربة.
تم تهميش مصر بوجود هؤلاء العملاء السفهاء في السلطة، وانتقلت القيادة إلى عواصم أخرى لا تملك من أمرها شيئا.
من الطبيعي حين تريد دولة عظمى مكسبا سياسيا من دولة أضعف أن تغري هذه الدولة الضعيفة بالمال، هذا ما حدث مع مصر في اتفاقية “كامب ديفيد” مثلا، أمريكا دفعت لمصر ثمن الصلح مع إسرائيل، وما زالت تدفع مبلغا سنويا حتى اليوم، (صحيح أن أمريكا تجني أضعاف أضعاف ما تدفعه.. ولكنها تدفع!).
وإذا لم تتمكن هذه الدولة العظمى من إغراء هذه الدولة الضعيفة بالمال فإنها تلجأ إلى قهرها بالحرب والقوة، وهذا ما حدث مع العراق مثلا، حيث تعرضت الدولة العراقية -بسبب الديكتاتور صدام حسين- إلى غزو عسكري أمريكي مباشر، نتج عنه احتلال صريح.
ولكن.. ولأول مرة في تاريخ البشرية، نرى دولة قوية تأخذ من مجموعة كبيرة من الدول مكاسب سياسية لا حدود لها دون أن تقوم بأحد هذين الأمرين.. فلا هي أغرتها بالمال.. ولا هي قهرتها بقوة السلاح!
لأول مرة في التاريخ -فيما أعلم- نرى دولا تسلم إرادتها واستقلالها، وفوق ذلك تدفع مالا وفيرا يعادل مخزون ثرواتها لعشرات السنين.. هكذا.. باختيارها، دون مقابل، ودون حرب!
في ظل حالة الاستسلام التام من الدول العربية، وبدفع مباشر، وتحريض مستمر من دولة المؤامرات العربية المتحدة.. لا بد من إعادة رسم المشهد الإقليمي.
من الطبيعي أن يطمع فينا الأمريكيون، وفي هذا الإطار بإمكانك أن تفهم الهجمة الشرسة على دولة قطر، وفي هذا الإطار يمكنك أن تفهم محاولة قص أظافر الجيش التركي وتواجده في سوريا، ودعم المنظمات الكردية (التي تعمل ضد تركيا) بالأسلحة الثقيلة، وكأنه إعلان حرب على تركيا برغم التحالف الشكلي معها.
لا شيء مضمون في عالم السياسة، وحين يتحكم في مصير العالم سفهاء، وموتورون من الممكن أن يحدث أي شيء، ولكن ذلك لا يمنع أن إرادة الشعوب تستطيع الصمود، وأن تخاذل الحكومات العربية لن يمنع شباب الأمة العربية من توحيد الصفوف لكي تمر هذه الأيام الصعبة.
ما يحدث في المنطقة هو محاولة استباق لثورة قادمة قادمة، يعلم الله من أين ستبدأ، وإلى أي مدى يصل مداها.
ستكون كلمة السر في الصمود هي غزة، وسيكون مفتاح نصر الشعوب في القاهرة.
لكل ما سبق.. نقول لثوار مصر.. أنقذوا الأمة العربية والمنطقة، وتوحدوا لإسقاط هذه السلطة الغاشمة التي تبيع كل شيء، ولا تكاد تقدم للناس أي شيء.
أعود لعنوان المقالة.. (متى تنتهي الفوضى؟)
سيجيب بعض المنهزمين بأن هذه الفوضى ستنتهي بعودة (مبارك ما) إلى السلطة، ولكن الحقيقة أن الموجود في السلطة حاليا ليس إلا نسخة من مبارك، قد تكون نسخة أغبى وأبشع.. ولكن في النهاية نحن أمام نظام (مباركي) بامتياز، وما زلنا نعيش في الفوضى!
وهناك الإجابة الصحيحة.. ستنتهي الفوضى حين تتولى الأمة قيادة نفسها بنفسها، وحين يخضع الجميع لحكم القانون، وحين يصبح للناس حق اختيار الحاكم، وحق محاسبته، ومعاقبته لو اقتضى الأمر.
ملحوظة: وقع أثناء كتابة هذه المقالة حادث إرهابي بشع، راح ضحيته مواطنون أقباط، فيهم أطفال صغار في محافظة المنيا، سقطوا مضرجين في دمائهم، برصاصات يعلم الله أي ملعون أطلقها، وكيف أحل لنفسه استباحة دماء هؤلاء المساكين.
رحم الله الضحايا، وألهم ذويهم الصبر والسلوان، وألهم مصر كلها الصبر على هذه الأيام السوداء التي لم تر مثلها منذ مئات السنين.
هذا الحادث الإرهابي استمرار لفشل النظام المصري في تحقيق الأمن، ذلك المطلب الذي زعم النظام أنه قد جاء لتحقيقه، فقضوا على الديمقراطية والحريات بذريعته، فكانت النتيجة أن رأينا مصر لا هي حققت الديمقراطية، ولا هي حظيت بالأمن. وبكل تأكيد لن تنالهما إلا باحترام حقوق وحريات الناس بدون أي استثناءات.
ونسأل الله السلامة.