لم تعد هنالك تكهنات كبيرة بخصوص مقاربة الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، تجاه منطقة الشرق الأوسط، عموماً، والملفات الساخنة فيها، مثل السوري والعراقي والتسوية السلمية، خصوصاً، فالسلوك الأميركي في كل من العراق وسورية، ثم مؤتمر قمة الرياض الذي حضره الرئيس الأميركي مع زعماء دول عربية، ثم زيارته إسرائيل الأسبوع الماضي، ذلك كله وضع معالم واضحة في تحديد استراتيجيته تجاه المنطقة.
نقطة الارتكاز في الاستراتيجية الجديدة تكمن في العودة إلى المعادلة القديمة، في المنطقة العربية، مع بعض التعديلات، أي إلى “الصفقة” مع الأنظمة الأتوقراطية العربية المحافظة في مواجهة عوامل التغيير الداخلية والقوى الصاعدة، وترجيح مصالح الولايات المتحدة الاستراتيجية المرتبطة بالأمن والنفط وشراء الأسلحة.
يفسر هذا التوجّه لماذا غابت تماماً قضية الديمقراطية أو حقوق الإنسان والحريات العامة عن خطاب ترامب في السعودية، وحتى منذ وصوله إلى البيت الأبيض، ولو حتى على صعيد التجمّل والمجاملة وادّعاء احترام القيم الأميركية، إذ كان صريحاً في دعم الرئيس عبد الفتاح السيسي، والأنظمة العربية المحافظة، تحت شعار “مكافحة الإرهاب” والقضاء على “داعش”، على حساب الملفات الداخلية العربية.
لم يكن هنالك تاريخياً دور أميركي واضح في التحوّل الديمقراطي في العالم العربي، وعادة ما انحازت الإدارات الأميركية للمدرسة الواقعية الصلبة (المصالح السياسية) على حساب القيم المثالية، لكنّ الفرق أنّ ترامب أكثر وضوحاً وسفوراً، فلم يبقِ، كما كانت الأمور سابقاً، أي مساحةٍ لانتقادات أو تعليقات مرتبطة بالحقوق السياسية وحقوق المرأة والديمقراطية وحقوق الإنسان، حذفها تماماً من القاموس الديبلوماسي الأميركي.
العودة إلى المدرسة الواقعية تمثّل أيضاً في الموقف من إيران، والالتزام بحماية أمن إسرائيل، حتى وإن لم يلغِ الاتفاقية النووية، إلاّ أنّه انقلب على مقاربة الرئيس السابق، باراك أوباما، وعاد ليؤجّج حالة العداء مع إيران على صعيد الخطاب الديبلوماسي، وإن كان تطبيق ذلك واقعياً يضعه في إشكالات وتناقضات، منها التحالف الواقعي مع إيران وحلفائها في العراق في مواجهة “داعش”.
إلاّ أنّ التحول تجاه إيران يبدو واضحاً في الملف السوري اليوم، وفي حرص ترامب مع الحلفاء العرب على قطع الطريق على بناء مجال استراتيجي إيراني، ممتد من طهران إلى المتوسط، عبر محاولة إقامة نفوذ عسكري أميركي أو حليف في مناطق الحدود العراقية- السورية، من التنف إلى البوكمال، وهو ما يفسّر التحول الجوهري في القيمة الاستراتيجية اليوم للبادية السورية، وقصف القوات الأميركية القوات السورية في ريف حمص الشرقي، ودعمها بالطيران للجيش الحرّ الذي يقاتل الجيش النظامي في تلك المنطقة.
يمكن إضافة جزئيات أخرى عديدة لتلك المعالم الرئيسة؛ الدعم المطلق لإسرائيل، الموقف من الإسلام السياسي، مع صعود الاتجاه اليميني أكثر في الدائرة المحيطة بالرئيس.
على الطرف الآخر، فإنّ الجديد في مقاربة ترامب هو عدم الرغبة بزج القوات الأميركية في الحروب الداخلية العربية، أي الالتزام بما كان عليه أوباما بالوعد بعدم التورّط في حروب جديدة، بعد العراق وأفغانستان، لكنه (أي ترامب) عدّل عليها في أكثر من أمر، منها عدم التسليم بالنفوذ الروسي- الإيراني الجديد في سورية، والعمل على تحجيم إيران، عبر دعم القوات الأخرى، وتحديداً الجيش الحرّ والأكراد، في سورية، والأكراد في العراق، وتوسيع النفوذ العسكري الأميركي في سورية، عبر إقامة قواعد عسكرية وزيادة عدد المدرّبين والمخططين العسكريين، الذين يشرفون على القوات المحلية.
ترامب، إذاً، يريد استعادة الدور العسكري الأميركي، ليس عبر جيشه وجنوده بصورة مباشرة، بل عبر القوات المحلية والحلفاء الذين يقاتلون بإشراف أميركي وتحت القيادة الأميركية، في كل من سورية والعراق، ودفع الدول العربية إلى المشاركة العسكرية المباشرة عبر ما أسماه “الناتو العربي” لمواجهة “داعش” وإيران.
ستحقق هذه الاستراتيجية لترامب نتائج مهمة، أبرزها دعم مصانع السلاح الأميركي عبر صفقات خيالية من التسليح والعسكرتارية في المنطقة، وضمان تنفيذ وعوده بأن تدفع الدول العربية ثمن الحروب الأميركية في المنطقة، مع زيادة المردود للمصالح الاقتصادية الأميركية، من أرباح ووظائف ونفوذ استراتيجي.