ما هذه الرجعية المقيتة؟ كيف يجرؤ شيخٌ يتزعم مليشيا إرهابية على إصدار قرار يُلزم المرأة بعدم السفر من دون محرم؟ كيف يدّعي أن ذلك “لدواعي المصلحة العامة والحد من سلبيات سفر النساء إلى الخارج”؟ عفواً، القرار ليس من صاحب عمامة، بل من صاحب قبعة عسكرية مهيبة. في فبراير/ شباط الماضي، صدر هذا القرار من اللواء عبدالرازق الناظوري، رئيس الأركان العامة للجيش الليبي الذي يتزعمه المشير خليفة حفتر.
اضطر اللواء الناظوري للتراجع، بعد غضب واسع، لكن أمثال هذه الوقائع لم تتوقف في معسكره، وسببها ما يغيب عن صورة حفتر محارب الإسلام السياسي الأول في ليبيا، وهو أن من أبرز حلفائه مقاتلي السلفية المدخلية! في مارس/ آذار الماضي، قبض رجال كتيبة التوحيد السلفية على أربعة شباب، بتهمة إقامة احتفال ساعة للأرض، وهو الاحتفال الذي استفزهم باعتباره تشبهاً بالكفار، وأيضاً لأنه شهد اختلاطاً للشبان بالفتيات والعياذ بالله.
في الوقت نفسه في الضفة، كانت تحدث مشاهد تقدمية مبهرة أخرى. في مطلع رمضان، أصدر رئيس نيابة رام الله بياناً قال فيه إنه ستتم معاقبة من “يتم ضبطه يفطر جهراً” بالحبس شهراً. حركة حماس نفسها في غزة لم تصدر قراراً كهذا.
وفي الضفة أيضاً في فبراير الماضي، صودرت رواية “جريمة في رام الله” للفلسطيني عباد يحيي، وصدرت مذكرات إحضار للمؤلف والناشر الذي قُبض عليه، بتهمة احتواء الرواية على “مصطلحات مخلّة بالحياء والأخلاق والآداب العامة”.
وإلى مصر حيث ظهر منذ اليوم الأول دين الشؤون المعنوية، عمّمت وزارة الأوقاف على المساجد دعوة الناخبين إلى التصويت في استفتاء دستور 2014، كما رأينا مشاهد في مستوى امتداح أستاذ فقه أزهري عبد الفتاح السيسي ووزير داخليته بأنهما “مرسلان من عند الله”. وشهدت مصر قضية الروائي أحمد ناجي الذي حُكم عليه بالسجن عامين بتهمة “خدش الحياء”، ولم تشمله قوائم عفو الرئيس السيسي.
جاءت الأزمة الحالية في الخليج، لتضيف صفحاتٍ أخرى لهذا النمط الفريد من التقدمية. أصدر الأزهر، بقامته وقيمته، بياناً يدعم قرار مقاطعة قطر، ودعا تلك “الأنظمة الشاردة” إلى أن تتذكّر حديث الرسول “عَلَيْكُمْ بِالجَمَاعَةِ فَإِنَّهُ مَنْ شَذَّ شَذَّ فِي النَّارِ”.
وفي الإمارات، معقل معسكر “الاعتدال” العتيد، شهدنا إبداعاً مختلفاً من الشيخ وسيم يوسف، خطيب جامع الشيخ زايد الكبير في أبوظبي. أطلق الشيخ وسيم شلالاً من الهجوم على قطر، وهاجم “الخريف العربي” الذي اعتبره فتنة، كما استشهد بعزل الصحابي خالد بن الوليد، ووصل إلى القول: “نحن مع ولاة الأمر، ولو أمروا أن نقطع يدنا اليمنى لقطعناها”.
في أي فصلٍ في كتب الديمقراطية قرأتم مصطلح “ولاة الأمر”؟ وفي أي ممارسةٍ ليبرالية، وجدتم التفاخر بقطع اليد؟ وفي أي دولةٍ غربيةٍ من التي تتنزهون فيها شاهدتم رجل دين يستخدم أقوال المسيح لدعم السياسة؟
ليست الظاهرة جديدة. شهد عهد جمال عبد الناصر الحملة ضد رواية نجيب محفوظ “أولاد حارتنا”، وفي عهد أنور السادات، أصبحت مصر “دولة العلم والإيمان”، كما كان سعيداً بلقب الرئيس المؤمن. أطلق صدام حسين الحملة الإيمانية، وأضاف “الله أكبر” إلى العلم العراقي، كما أحب معمر القذافي إحاطة نفسه بالشيوخ في مسابقة الفاتح للقرآن الكريم.
على أرض الواقع، لا علمانية بدون ديمقراطية، بل الديمقراطية تاريخياً تسبق في تحقّقها الليبرالية بعقود أو قرون. ولأن الأنظمة غير الديمقراطية تعاني ضعفاً دائماً في شرعيتها، فإنها لا تستطيع السعي إلى حل أزمة الحداثة المتعسّرة مجتمعياً وسياسياً، بل بالعكس تنافق مجتمعاتها لتثبيت حكمها، وتبحث عن أي أوراق قوةٍ بديلة.
الإسلام السياسي حرام على خصومنا وحلال علينا. استخدام منصة ميدان رابعة العدوية الآيات القرآنية والأحاديث النبوية لصالح “الإخوان” جريمة، لكن استخدامهما لصالح السيسي وطنية. حين يقول يوسف القرضاوي إن التصويت للنظام الرئاسي في تركيا “يتفق مع التعاليم الاسلامية” تواجهة عاصفة هجوم هائل، ومُستحقٌّ وأتفق معه، لكن حين يقولها الأزهر تصبح برداً وسلاماً.
لا تأتي العلمانية على ظهور الدبابات، بل على ضفاف المدارس والكتب والحريات وصناديق الانتخاب، و”الاعتدال” الكاذب كالحمل الكاذب، نهايته دمٌ وخيبة أمل.