جاء يونيو، شهر النكسة التي قوّضت حلم الستينيات العربي هذا العام، ليذكّر الأمة العربية بمرور خمسين عاماً على تلك الهزيمة المروّعة التي كسرت أكبر وأهم ثلاثة جيوش عربية، كانت ترفع شعار “تحرير فلسطين” في ذلك الوقت، المصري والسوري والأردني، بل انتهى الأمر بسقوط كل فلسطين التاريخية في قبضة الاحتلال الإسرائيلي، إضافة إلى شبه جزيرة سيناء وجزيرتي تيران وصنافير ومضيق تيران المصرية، وبالتالي مدخل خليج العقبة المؤدي إلى الميناء الإسرائيلي الوحيد على البحر الأحمر، إيلات، وهي قرية أم الرشراش العربية سابقاً، وهضبة الجولان السورية، ومزارع شبعا في الجنوب اللبناني. وإضافة إلى تلك الهزيمة المادية، كانت هناك هزيمة معنوية، تركت جرحاً غائراً في الوجدان العربي، نتيجة الشعور العام بالمهانة، وضياع الحلم العربي، حلم الوحدة والتحرير، والذي اتضح أنه كان وهماً.
جاء يونيو هذا العام، ليس فقط ليذكّرنا بمرور نصف قرن على العدوان الإسرائيلي الباقية آثاره على أرض الواقع مادياً ومعنوياً، على الرغم من النصر العسكري الذي تحقق في حرب أكتوبر 1973، وما ترتب عليها من معاهدة سلام مصرية – إسرائيلية، وانسحاب مشروط من شبه جزيرة سيناء. جاء يونيو هذا العام يحمل ذكرى النكسة الأليمة، وتصاحبه رياح شديدة، وكأنها عواصف عاتية هبت على الأمة العربية، من دون مقدمات موضوعية. وللأسف، كانت رياحاً حزينة. بدأت في اليوم نفسه الذي انطلقت فيه حرب 1967 يوم 5 يونيو، حيث أعلنت ثلاث من دول مجلس تعاون دول الخليج العربية، وهي المملكة العربية السعودية، بكل ما تمثله من ثقل ديني وعربي وخليجي، والإمارات العربية ومملكة البحرين، ومعهم دولة من خارج المجلس هي مصر، بكل ما تمثله من ثقل إقليمي، أعلنت الدول الأربع قطع علاقاتها بإحدى دول مجلس التعاون، دولة قطر. ولم يقتصر الأمر على قطع العلاقات الدبلوماسية وسحب السفراء، ولكنها تجاوزت ذلك إلى مقاطعة كاملة تقترب من الحصارين، السياسي والاقتصادي، بل وتعدّت ذلك إلى المجالات الاجتماعية والإنسانية. وكان قد سبقت تلك الإجراءات، ثم صاحبتها، حملة إعلامية تتهم قطر بدعم الإرهاب وتمويله، والتعاون مع دولة إيران التي تقف موقفاً معاديا من المملكة السعودية ودول الخليج، والمحور السني عموماً.
وهكذا جاءت رياح يونيو الحزينة بأزمة عربية – عربية، تزداد تعقيداً يوماً بعد يوم، على الرغم من كل جهود المصالحة من داخل مجلس التعاون الخليجي، والتي تقودها الكويت وأميرها المخضرم بما يتمتع به من مكانة لدى دول مجلس التعاون، أو الجهود الإقليمية ومن خارج العالم العربي، والتي تقودها تركيا بحكم علاقاتها المتوازنة مع كل دول الخليج، ووزنها الإقليمي، أو جهود أطراف دولية أوروبية وآسيوية وأفريقية أخرى.
وبينما الأمة العربية مشغولة بما يجرى في الخليج، وبالمواقف المتباينة تجاه تلك الأزمة، سواء على المستوى العربي، أو الإقليمي، أو الدولي، إذا برياح يونيو الحزينة تحمل لنا حدثاً جديداً، وقع يوم 14 من الشهر، وعلى الرغم من أنه يبدو وكأنه حدث محلي يخص الدولة المصرية بكل مؤسساتها، وشعبها، وهو موافقة مجلس النواب المصري على اتفاقية ترسيم الحدود البحرية بين مصر والسعودية، وبمقتضاها تنتقل السيادة المصرية على جزيرتي تيران وصنافير إلى السيادة السعودية، على الرغم من صدور حكم بات ونهائي من المحكمة الإدارية العليا المصرية ببطلان الاتفاقية، وتأكيد مصرية الجزيرتين. إلى هنا والأمر يبدو وكأنه مصري محلي، يدور حوله جدل وخلاف بشأن ما إذا كانت الجزر مصرية أم سعودية. وهو جدل غير مسبوق مصريا، فلم يسبق تاريخياً أن كانت حدود الإقليم المصري الثابتة عبر آلاف السنين محلا للجدل أو الخلاف، بصرف النظر عن وضع الدولة المصرية ، مستقلة كانت أو ولاية تابعة أو تحت الاحتلال أو حتى تحت الحماية.
ستترتب على هذا الحدث تغيرات جيوسياسية إقليمية بعيدة المدى، قد تكون ذات تأثيراتٍ عميقة على مستقبل الأمن القومى المصري، بل والعربي عموماً، في ظل وجود دولة العدو الإسرائيلي، وما تمثله من تهديداتٍ حالية ومستقبلية. ولتوضيح الأمر، وجود جزيرتي تيران وصنافير تحت السيادة المصرية يعنى أن مضيق تيران، المحصور بين ساحل الجزيرتين وساحل سيناء مياه إقليمية مصرية خالصة، ويصبح لإسرائيل وغيرها حق المرور “البريء” عبر المضيق في وقت السلم، ويكون من حق مصر غلق المضيق بإرادتها، في حالة الحرب، من دون مسؤولية دولية. وهي بلا شك ميزة استراتيجية لا يُستهان بها في ظل الأطماع، والطموحات الصهيونية، وما يمكن أن يحدث من متغيرات مستقبلية.
أما في حالة انتقال السيادة – المستقرة على مدى التاريخ على جزيرتي تيران وصنافير، من مصر إلى العربية السعودية، كما تنص الاتفاقية، والتي وافق عليها البرلمان يوم 14 يونيو/ حزيران الحالي، على الرغم من حكم المحكمة الإدارية العليا ببطلانها، تُصبح إحدى ضفتي المضيق مصرية والأخرى سعودية، وبالتالي يُصبح المضيق، طبقا للقانون الدولي، مياهاً دولية، لا يحق لأي طرفٍ التحكم في العبور خلالها، لا في وقت السلم، ولا في حالات الحرب، وهو ما يُمثل للعدو الإسرائيلى ميزة كبرى، كان يحلم بها، منذ احتلاله قرية أم الرشراش العربية عام 1949 على خليج العقبة، وأنشأ عليها ميناء إيلات، لينطلق منه إلى البحر الأحمر، بشرط ضمان حرية الملاحة عبر مضيق تيران، وهو الشرط الذي كان يفتقده العدو الإسرائيلي. ونعلم جميعاً أن حرب يونيو 1967، وما ترتب عليها من نكسة، كانت ذريعة العدو الإسرائيلي فيها قرار الرئيس جمال عبد الناصر سحب قوات الطوارئ الدولية من شرم الشيخ، والتي كانت موجودة منذ عام 1957، لضمان حرية مرور العدو الإسرائيلي عبر مضيق تيران، وكان ذلك شرط إسرائيل للانسحاب من سيناء عقب حرب العدوان الثلاثي على مصر في 1956، وبالتالي فإن إعلان عبد الناصر إغلاق المضيق أمام سفن العدو الإسرائيلي في مايو/ أيار 1967، كان بمثابة إعلان الحرب.
وتستمر رياح يونيو الحزينة، أزمة الخليج تتفاقم، وانعكاساتها تزداد خطورة، سواء بالنسبة لمستقبل مجلس التعاون الخليجي نفسه، أو تحولات محتملة في التحالفات الإقليمية والدولية، مع أدوار متنامية لتركيا وإيران وروسيا.
واتفاقية ترسيم الحدود البحرية المصرية – السعودية، وما سيترتب عليها من تغيرات جيوسياسية، فى طريقها إلى الدخول في حيّز التنفيذ، عندما يتم تصديق رئيس الجمهورية عليها لتصبح قانوناً نافذاً، بعد رفعها إليه من البرلمان مشمولة بالموافقة. وبالتالي، تنتقل السيادة على جزيرتي تيران وصنافير إلى المملكة العربية السعودية، وما يترتب على ذلك من تغيرات في الأوضاع القانونية الدولية لمضيق تيران، وأيضاً الترتيبات الأمنية بمقتضى معاهدة السلام المصرية – الإسرائيلية التي كانت تضع الجزيرتين ضمن المنطقة ج التي توجد فيها عناصر شرطة مدنية مصرية فقط، وعناصر من القوات متعددة الجنسيات. وما إذا كان سيترتب على ذلك دخول السعودية في معاهدة السلام المصرية – الإسرائيلية طرفاً غير مباشر.
في ظل تلك الأجواء، تخرج علينا تسريبات إعلامية، غير رسمية، عن اتصالات سعودية – إسرائيلية، برعاية أميركية، للتباحث حول تسيير خطوط جوية مباشرة بين تل أبيب والسعودية بذريعة نقل الحجاج من فلسطينيي الأراضي المحتلة في 1948، وأيضاً لإقامة علاقات تجارية بين البلدين.
في وسط غُبار رياح يونيو الحزينة، وضباب كثيف يُحيط بالمنطقة، وكأنه مخاض لصفقة القرن التي تُرتب لها الصهيونية العالمية، مع شركاء إقليميين، ودوليين، لتثبيت أركان دولة العدو الإسرائيلي قوة إقليمية مقبولة ومعترف بها عربياً، بعد تصفية القضية الفلسطينية، في وسط ذلك كله، يبقى الأمل فى أجيال عربية قادمة، تأتي من رحم المستقبل.
طالما استمرت روح المقاومة حيةً في وجدان الأمة، وحتما.. الشعوب ستنتصر.