شبكة رصد الإخبارية
follow us in feedly

الديكتاتورية على بطن فاضية – فادي رمزي

الديكتاتورية على بطن فاضية – فادي رمزي
  تنتمى سلسلة كتب "ألعاب الجوع"، بأجزائها الثلاثة، إلى كتب الخيال العلمى من الناحية الشكلية،...

 

تنتمى سلسلة كتب "ألعاب الجوع"، بأجزائها الثلاثة، إلى كتب الخيال العلمى من الناحية الشكلية، ولكننى شخصيا اراها من كتب "الخيال الواقعى"، كما أحب ان أسميها، ومثلها فى ذلك مثل سلسلة "ثورة 2053" للموهوب محمود عثمان.
 
الفارق بين الخيالين هو ان فى العلمى يشطح المؤلف بخياله كما يشاء فى اى اتجاه يريد، ويستند بدرجة او بأخرى على اسس علمية حياتية حالية، ولكن المؤلف فى الخيال الواقعى اراه يدرس الواقع جيدا ثم يصل بين نقاطه فى الموضوع الذى يريد تناوله ويمد خطا مستقيما الى المستقبل القريب او البعيد وينقل لنا من هذا الإمتداد ما يراه من أحداث، تعتمد بقوة على واقعنا الحالى الذى تتشكل من خلاله وتتبلور من خلال ابداع المؤلف وخياله.
 
تنقل لنا الأمريكية سوزان كولينز فى الجزء الأول من ألعاب الجوع مشاهد تطور السلطة فى عهود ما بعد الحرب العالمية الثالثة، التى تحول قارة أمريكا الشمالية الى أراض برية ينتشر الخراب بين ربوعها، فيما عدا العاصمة البهية المتألقة "كابيتول" التى ينعم اهلها بكل مظاهر الحياة المتقدمة والمترفة، ويحيط بها 12 مقاطعة … لا يحق لهم حتى تسمية مقاطعاتهم، فهم مجرد ارقام من 1 الى 12 تفرض عليهم الكابيتول القواعد الصارمة وتحكمهم بالحديد والنار المغلفان بإطار من المدنية المتحضرة الزائفة.
 
نعلم تدريجيا اصول تلك المنظومة السياسية التى قد تبدو لأول وهلة فريدة من نوعها … وهى أن المقاطعات كانوا 13 مقاطعة، ولكن المقاطعة رقم 13 اقترفت الجرم الكبير، فقد ثارت على سلطة الكابيتول الغاشمة، والتى تحتكر كل خيرات بلاد "بانام" وتلقى الفتات لباقى العباد … واقنعت المقاطعة المنحوسة باقى المقاطعات بالثورة، وبالفعل هاجموا بحشودهم الجائعة العاصمة، وحاصروها … ولكن اسلحة الدمار الشامل قتلت الثورة قبل أن تحقق أهدافها ..
 
كان العقاب قاسياً، فقد أبيدت المقاطعة الثالثة عشر تماما بكل أهلها، حتى تكون عبرة لمن يعتبر من باقى المقاطعات الأخرى، فمش كل من عنده مشكلة يثور .. فما هكذا تحل الأمور.
احاطت الكابيتول كل مقاطعة بأسوار عالية مكهربة ورقابة صارمة … وجعلت اهل كل مقاطعة يتخصصون فى اعمال معينة: الزراعة، الصيد، صناعة الملابس، الصناعات الإلكترونية، التعدين …. إلخ. ودائما ما تورد المنتجات ونتاج الجهد والعرق الى العاصمة وتمنح كل مقاطعة فى المقابل الحق فى الحياة … بأدنى الصور الممكنة .. يتم اعطاء حصة من الأغذية تبقيهم دوما على شفا الجوع وبدون الإقتراب من مرحلة الشبع، واذا ما قرر احد الأهالى ان يصطاد غذائه لأهل بيته من البرية المحيطة بمقاطعته، كان عقابه الجلد او الموت لو كرر اكثر من مرة جرمه، وذلك بواسطة قوات "حفظ السلام" .. نعم هكذا أختير اسمها، فالسلام هنا هو ان نحافظ على توريد حقوق اهل العاصمة بصفة منتظمة، اما ما دون ذلك فلا يرتقى الى ان ينشغل به النظام الديكتاتورى "المدنى" لهذه الدولة "المتحضرة".
 
لكن هذا العقاب لم يكن كافياً، حيث يجب ان ترتبط الأجيال المتعاقبة بفكرة ان الثورة هى سبب البلاء الذى اصاب كل مقاطعة، فلو ظلوا مسالمين مهادنين لأراحوا واستراحوا وبالتأكيد كانت ظروفهم ستكون افضل بكثير … وبالتالى لم يجد أهل العاصمة طريقة افضل من ان تنظم كل سنة مسابقة تليفزيونية كبرى، فيها يتبارى شاب وفتاة من كل مقاطعة …. حتى الموت ..
ويشاهد هذه المجزرة اهل العاصمة وشعوب كل مقاطعة، يتسلى الأولون بالإثارة والتشويق وتسويق المنتجات الملطخة بدماء المتبارين المساكين، ويجبر الآخرون على التهليل والتصفيق بل والإفتخار إذا فاز متسابق من مقاطعتهم ونجح فى ذبح الباقين والخروج سالما من هذه المجزرة الوحشية … المتحضرة.
 
ويحظى الفائز واهل مقاطعته بتموين إضافى من الأغذية، ربما يجعلهم يقتربون بعض الشىء من المساحة المشبعة من بطونهم المشتاقة لأن تمتلىء ولو مرة عن آخرها.
بطلة الرواية هى كاتنيس، من المقاطعة الثانية عشر، تلك المتمردة ذات ال 16 عاماً التى تعيل افراد اسرتها ولا تبال بالعقوبات المنتظرة وتصطاد من الغابة القريبة حتى تطعم أمها وأخواتها. ولكن يتم  إختيارها لتنضم لتلك المسابقة الدموية، ومعها "بيتا"، وهو شاب فى مثل عمرها تختاره القرعة وتجبره هو اهله واللى يتشدد له على إحترام إختياراتها.
فى العاصمة يعاملوا هؤلاء الفتية مثلما كان الرومان يعاملون المصارعين قبل يوم نزولهم إلى الحلبة، ليتقاتلوا ايضا فيما بينهم فقط من أجل الترفيه عن الطاغية والحاشية، فهم يطعموهم كما لم يأكلوا من قبل، ويعطوهم ملابس جميلة لا تكتفى فقط بتوفير الستر … ويخرجون على الناس فى برامج تليفزيونية، يضحكون ويتحاورون وكانهم طالعين رحلة ترفيهية، ويوم المعمعة يتكالب الرعاة لإعطاء من يتعاطفون معه من المتصارعين هدية غالية طوال مراحل المسابقة، مثل قطعة لحمة او علبة دوا … وذلك على سبيل الشفقة وتعبيرا عن المشاعر الإنسانية النبيلة، لشعب دولة متحضرة متمدينة.
 
سوزان كولينز رسمت الجو العام بريشة أدبية سلسة وناعمة وفى نفس ذات الوقت تقطر مرارة وحسرة، مع لمسات كوميدية لتلطيف الأجواء الحزينة التى نرى فيها الفتية مثل الشاة التى تساق الى الذبح، ونستشعر قرصات جوع الصغار وآلام الكبار وهم لا يريدون شيئا من العاصمة سوى الصفح … بدون ان يعرفوا ماذا كان جرمهم فى الحقيقة، فأجدادهم فقط قد رفضوا القهر والذل ودوام النفخ. من الصعب ان تتجاهل عنصر التشويق فى اسلوب طرح هذه الرواية، فهو من الكتب التى تنشغل بها عن الظروف المحيطة وما ان ينتهى الفصل الذى تقرأه حتى تجد نفسك لا تستطيع ان تترك الأحداث معلقة عند هذه المرحلة الحاسمة وتعود إلى مهامك الحياتية المعتادة … وهذا يساهم فى ان تنتهى من الكتاب بسرعة وتشتاق الى قراءة الجزء الثانى من هذه السلسلة المثيرة للجدل اكثر مما تثير الخيالات غير الواقعية.
 
سأنتهى من الجزء الثانى واتعرض له قريبا بكل تأكيد … فحوار الجوع مستمر، خاصة فى تلك الأجواء الرمضانية، وقد تجعلك الأحداث تشكر الله كثيرا على نعمة توافر عناصر سفرة الإفطار الشهية … وتتذكر حينها ان الجوع يثير حروبا كثيرة، تنظر اليها الأمم الشبعانة كألعاب تتحكم هى فقط فى قواعدها حتى تزيد من سيطرتها وسطوتها.
 
المصدر: رصد 


تنفيذ و استضافة وتطوير ميكس ميديا لحلول الويب تنفيذ شركة ميكس ميديا للخدمات الإعلامية 2023