ترجمة: صفاء مسعود
أثناء الحرب الباردة ساهمت تركيا في وضع حد للبحرية السوفيتية في البحر الأبيض المتوسط وقدمت أحد أكبر الجيوش في أوروبا، واستضافت بعض أهم منشآت الناتو العسكرية.
وكثر الحديث أخيراً عن الدور المميز والبالغ الأهمية الذي تلعبه تركيا في العلاقات الدولية فبصفتها عضواً في حلف شمال الأطلسي (الناتو) ووسيطاً دبلوماسياً واسع النفوذ في الشرق الأوسط ولاعباً اقتصادياً دولياً يزداد قوة تحولت تركيا إلى ظاهرة جديدة حتى في عصر التعاون العالمي والتكافل السياسي غير المسبوق. لكن هذا ليس بالأمر الجديد فطوال أكثر من نصف قرن أدت تركيا دوراً فريداً دوراً يعكسه بوضوح جسر نهر البوسفور الذي يربط آسيا بأوروبا والشرق بالغرب.
أما الجسر الذي يربط الولايات المتحدة بتركيا، فيعود إلى أكثر من قرنين، لكن هذا الجسر ترسخ حقاً خلال معارك الحرب الكورية، حين قاتلت القوات التركية جنباً إلى الجنب مع الأميركيين، وقد شهد السابع والعشرون من يوليو الذكرى التاسعة والخمسين للهدنة في هذه الحرب. جاء التدخل التركي في كوريا ملحاً وفي وقته المناسب، ووصل اللواء التركي المؤلف من 5 آلاف جندي إلى كوريا في أكتوبر عام 1950، حين كانت القوات الأميركية (التي عملت آنذاك كجزء من ائتلاف تابع للأمم المتحدة) تناضل للصمود في وجه هجوم صيني شيوعي قوي، وفي الشهر التالي، تمكن هذا اللواء من ردع ست فرق صينية في محيط منطقة كونوري.
وبعد أن ساهم اللواء التركي في تدعيم الجبهة، أعلن قائد قوات ائتلاف الأمم المتحدة، الجنرال دوغلاس ماكارثر: “اللواء التركي بطل الأبطال. فما من مستحيل بالنسبة إليه”. فبينما تواصلت الحرب، استبسل الجنود الأتراك في مساعدة قوات الأمم المتحدة، حاصدين التقدير من الجنرال والتون والكر، قائد الجيش الثامن الأميركي، والرئيس هاري ترومان الذي منح اللواء التركي وسام Presidential Unit Citation.
يُعطى هذا الوسام عادة لوحدات القوات المسلحة في الولايات المتحدة والدول الحليفة لاستبسالهم في مقاتلة العدو، وقد مُنح للواء التركي نظراً إلى الجهود التي بذلها لإنقاذ الفرقة الثانية الأميركية من الإبادة الكاملة، فخسر خلال هذه المعركة نحو 717 من جنوده. تحولت تركيا في النهاية إلى رابع أكبر مساهم عسكري في جهود الأمم المتحدة، بعد أن خدم ما مجموعه 15 ألف جندي تركي في كوريا في مراحل مختلفة من الحرب، ونتيجة هذا التعاون اللصيق على أرض المعركة، تعمقت العلاقات بين الجنود الأميركيين والأتراك، فبعد وصول الجنود الأتراك إلى كوريا، تولى الجيش الأميركي تدريبهم وتجهيزهم، ما منح الجنود والضباط فرصاً كثيرة لتقوية الروابط الشخصية والمهنية التي تجمعهم.
ذكر عضو الكونغرس الراحل، جون مورثا، ذات مرة أن التدخل التركي “منح الأمل لأمة أميركية تحطمت معنوياتها”، وفي الذكرى الخمسين للحرب الكورية عام 2000، تذكر مورثا أن الجنود الأتراك، بعد أن نفدت ذخيرتهم، ثبتوا السكاكين إلى رؤوس بنادقهم وواصلوا القتال وجهاً لوجه. علاوة على ذلك، شكّل قرار أنقرة الشجاع إرسال جنود إلى كوريا في أواخر عام 1950 نقطة أساسية ضمنت لتركيا الانضمام إلى الناتو في السنة التالية. عندما تشكل هذا الحلف في أبريل عام 1949، لم تُدعَ تركيا للانضمام إليه، فكانت واشنطن مترددة في الالتزام بالدفاع عن تركيا البعيدة، ورفضت اقتراحات تركيا بشأن تحالف ثنائي أو ضمان أمني أميركي أحادي الطرف.
كذلك لم يشأ أعضاء الحلف الأوروبيون الغربيون تجزئة المساعدات الاقتصادية الأميركية وغيرها من وسائل الدعم التي كانوا يتلقونها. مع أن بعض القادة الأتراك أرادوا اعتماد سياسة خارجية حيادية عقب تجاهل الناتو لتركيا، واصل صناع السياسات الأتراك سعيهم للانضمام إلى هذا الحلف، معتقدين أن هذا التحالف سيمنح تركيا أفضل رابط يجمعها بالغرب، وبفضل المساهمة التركية الأساسية في الصراع الكوري، ما عاد بإمكان الحلفاء رفض الحملة الجديدة التي أطلقتها أنقرة للفوز بعضوية الناتو، وفي شهر سبتمبر عام 1951، تلقت تركيا واليونان دعوة رسمية للانضمام إلى هذا الحلف. قدّمت تركيا مذاك مساهمات كبيرة للناتو، فخلال الحرب الباردة، ساهمت تركيا في وضع حد للبحرية السوفياتية في البحر
الأبيض المتوسط، قدّمت أحد أكبر الجيوش في أوروبا، واستضافت بعض أهم منشآت الناتو العسكرية.
وأخيراً، شارك الجنود الأتراك في المهمات التي دعمتها الأمم المتحدة في يوغوسلافيا سابقاً وليبيا. تتعاون الولايات المتحدة وبريطانيا العظمى وأعضاء آخرون في المجتمع الدولي مع تركيا لإحلال السلام في أفغانستان، الشرق الأوسط، وغيرهما من المناطق الساخنة حول العالم. يخدم اليوم أكثر من ألف جندي تركي في قوات المساعدة الدولية لإرساء الأمن في أفغانستان، ويدرب الجيش التركي قوات الأمن الوطني الأفغانية، في حين يقوم الدبلوماسيون الأتراك بمبادرات سلام إقليمية، مثل عملية إسطنبول، بهدف المضي قدماً بالمصالحة بين باكستان وأفغانستان من خلال تدابير تعزز الثقة وغيرها من الإجراءات. إذاً، مهّد التعاون في ساحة القتال في كوريا قبل أكثر من نصف قرن الطريق أمام تحالف متين، واليوم، تتعاون تركيا والولايات المتحدة معاً للترويج للديمقراطية في الشرق الأوسط، معيدة إدخال العراق ووسط آسيا إلى الاقتصاد العالمي ومعززة علاقاتها عبر الأطلسي، في حين تصب واشنطن كل اهتمامها على آسيا.
"ريتشارد ويتز" مدير مركز التحليل السياسي العسكري في معهد هادسون وباحث بارز فيه حيث شملت أبحاثه الأخيرة تطورات الأمن الإقليمي في أوروبا وأوراسيا وشرق آسيا، فضلاً عن السياسة الخارجية للولايات المتحدة الأميركية وسياستها الدفاعية وأمنها القومي وسياستها للحد من انتشار أسلحة الدمار الشامل.