شبكة رصد الإخبارية
follow us in feedly

فرقعات هذا الزمان – فهمي هويدي

فرقعات هذا الزمان – فهمي هويدي
  دخل أحد الأشخاص محلا للتحف فى القاهرة، وأجال النظر فيه، وحين لاحظ وجود بعض التماثيل بين المعروضات، فإنه...

 

دخل أحد الأشخاص محلا للتحف فى القاهرة، وأجال النظر فيه، وحين لاحظ وجود بعض التماثيل بين المعروضات، فإنه توجه إلى صاحب المحل وقال له إن التماثيل حرام، وإنه لو باع شيئا آخر مثل الجرجير أو الفجل فسيكون ذلك أفضل له. إذا صحت الواقعة فإنها فى الظروف العادية لا تشكل خبرا يهم الرأى العام، لأنها مجرد تصرف فردى، إلى جانب أن بيننا من يعتقد فى ذلك ويطبقه فى حياته الخاصة، بالتالى فإن إهمال المعلومة وإلقاءها فى صندوق القمامة يصبح مصيرا طبيعيا لها.

 

ولكن لأن إعلام زماننا له معايير ومقاصد مختلفة فإن الواقعة تحولت إلى خبر تصدر رأس الصفحة ونشر على خمسة أعمدة فى إحدى صحف السبت الماضى 18/8. وللإيحاء بأنه حدث مهم فإن العنوان أصبح كالتالى: إسلاميون يهددون صاحب محل «أنتيكات». ولم يقتصر النفخ على إبراز الواقعة والحديث عن «إسلاميين»، فى حين أن النص المنشور ذكر أنه نفر واحد، وإنما أضفت الجريدة عليها لمسات أخرى لها دلالاتها من قبيل أن صاحب الواقعة رجل «ذو لحية كثة وجلباب أبيض قصير» دخل المحل المذكور «وعلى وجهه علامات غضب شديد»، وانه حين وجد التماثيل «صرخ فى وجه صاحب المحل» وحذره من بيع التماثيل. كما ذكر الخبر ان صاحب المحل «لا يعرف على أى مذهب يستند السلفيون والإخوان الذين يحرمون التماثيل». فى تعميم على الجميع، فى حين أن الخبر بدأ منسوبا إلى فرد.

الأسلوب ذاته اتبع مع صاحبنا الذى تحدث عن إهدار دم الخارجين على الحاكم والمتظاهرين يوم 24 أغسطس. إذ بدلا من أن يدان موقف الرجل ويرد على مقولته أو يحاسب على تحريضه، ثم تطوى صفحته لكى ينصرف المجتمع إلى ما هو أجدى وأنفع، فإن ميليشيات المتربصين اعتبرت الكلام هدية هبطت عليهم من حيث لا يحتسبون. فأبرزوه تحت عناوين صارخة وظلوا يلوكون مفرداته طول الوقت، كما حولوه إلى موضوع للمناقشة، حيث لم يعدموا مهووسين أيدوه ومعارضين سفهوه. فى ذات الوقت فإن نفرا من المعلقين اعتبروه صيدا ثمينا صوبوا نحوه جل سهامهم. وقرأنا لبعضهم أن ما نقل على لسان الداعية «يكشف عن الوجه الحقيقى للسياسة التى سوف ينتهجها الإسلاميون» وأن «تلك مقدمات الدولة الدينية»، وأن الرجل «لم يخترع شيئا ولكنه قال فى العلن ما يتداوله الإسلاميون فى السر». إلى غير ذلك من التعليقات التى استهدفت تحويل الفرقعة إلى هم حقيقى، بعدما نسبتها إلى مجمل فصائل التيار الإسلامى، كأنها اجتمعت فيما بينها وقررت إعلان «الجهاد» ضد معارضى الحكومة واستباحة دمائهم.

هذا الذى حدث مع أحد الدعاة تكرر مع نظير له تحدث عن تطبيق حدود الشريعة الإسلامية حين يكون المجتمع جاهزا لذلك. ولكن إحدى الصحف أبرزت الكلام على صفحتها الأولى باعتباره حدثا سيتم فى وقت قريب، وأن ذلك ليس رأى فرد، ولكنه رأى الإسلاميين الذين لم تشر إلى عددهم أو هويتهم الحقيقية. السيناريو ذاته تابعناه حين أعرب أحدهم عن أمله فى إقامة الخلافة الإسلامية. وهى القصة التى لا يمل أعضاء «حزب التحرير» من الحديث عنها بمناسبة وغير مناسبة. دون النظر إلى أى واجبات وتكاليف أخرى فى الإسلام. وكأن الخلافة باتت ركنا من أركان الدين، لا يكتمل إيمان المسلم إلا بالوفاء بحقه.

قلت إن مدرسة الاصطياد هذه تصر على تعميم تلك الأفكار ونسبتها إلى التيار الإسلامى فى مجموعه. ولا أذكر مرة أنها نسبت أى واقعة مما ذكرت إلى شخص بذاته أو فئة معينة من الإسلاميين. وهذا موقف يتعذر افتراض حسن النية فيه، وأعتبره ليس مهنيا وليس أخلاقيا بل أزعم أنه أيضا ليس وطنيا. ليس فقط لأنه يتلاعب بالحقيقة ويشوهها، لكن الأهم من ذلك انه يؤدى إلى إثارة البلبلة وترويع الناس وتخويفهم، الأمر الذى ينفر المجتمع ليس من الإخوان والإسلاميين فحسب، ولكن من الثورة ذاتها التى أتاحت فرصة الظهور والتمكين لهؤلاء وهؤلاء.

الذى لا يقل عن ذلك سوءا، بله الأخطر، أن مثل تلك الحملات تصرف الرأى العام عن اهتمامات وواجبات الوقت. إذ بدلا من أن ينشغل الناس بتثبيت أقدام النظام الديمقراطى الجديد، ويعبأون لصالح تحقيق أهداف الثورة فى الدفاع عن الحرية والكرامة الإنسانية والعدالة الاجتماعية. فإنهم يستدرجون للجدل حول أمور لا علاقة لها بهموم المجتمع ولا بأولوياته فضلا عن طموحاته.

لقد قلت ذات مرة إن الذين يشنون تلك الحملات يقدمون كراهية الإخوان على محبة الوطن. ولذلك فإنهم لا يترددون فى استمرار إثارة الجدل حول تلك القضايا الوهمية أو الآجلة، وفى تكريس الخوف والقلق دون اكتراث من جانبهم بتأثير ذلك على مسيرة الثورة ومستقبل الوطن. وإزاء إصرارهم على المضى فى ذلك النهج، فإن المرء حين لا يكون بمقدوره أن يثنيهم عما يمارسونه من تشويه وكيد، فانه لا يملك فى هذه الحالة سوى أن يفضح أساليبهم وينبه إلى التدليس فيها أولا بأول.

 



تنفيذ و استضافة وتطوير ميكس ميديا لحلول الويب تنفيذ شركة ميكس ميديا للخدمات الإعلامية 2023