أظهر إهمال دونالد ترامب تنسيق مواقفه مسبقًا فائدة في مجال الأعمال التجارية؛ لكنه يؤثر تأثيرًا ضارًا في صنع السياسات.
ومنذ ترؤسه أميركا وسِمته الأساسية أنه «لا يمكن التنبؤ بأفعاله»، وسواء أكانت هذه استراتيجية مدروسة بعناية أم أنها مجرد نهج حريص وفوضوي؛ يبدو أنه خالٍ من أيّ استراتيجية تجاه القيادة السياسية. ظهرت آثار هذا النهج في واشنطن العاصمة وعبر الشؤون العالمية، وحاليًا في الأزمة السياسية في الخليج.
وتعدّ المواجهة بين قطر وثلاث من دول مجلس التعاون الخليجي ومصر أهم أزمة للسياسة الخارجية في عهد «ترامب». وحدثت تطورات هامة في العراق وسوريا وكوريا الشمالية منذ تنصيبه؛ لكن أزمة الخليج جديدة ومختلفة؛ بعدما قادت الإمارات والسعودية حملة لعزل قطر، موقع الاستثمارات الأميركية الرئيس في مجال الطاقة، والقاعدة العسكرية التي تستضيف 11 ألف عسكري أميركي، وهي مفتاح الحملات في أفغانستان والعراق وسوريا.
وشعرت دول تحالف الحصار أنها قادرة على العمل بالرغم من المصالح الأميركية في قطر؛ لأنهم يعتقدون أنهم فعلوا ما هو مطلوب لجلب الرئيس «ترامب» ودائرته الداخلية معهم، عبر إدارة العلاقات الشخصية بعناية مع نوع من استعراض العظمة أثناء زيارته الرياض في بداية مايو. ويرى المسؤولون الأميركيون في وزارتي الخارجية والدفاع أنّ الأزمة تضر بمصالح أميركا وسمعتها.
في وقت مبكر من الأزمة، ظهر التناقض بين «ترامب» ووزير خارجيته «ريكس تيلرسون»؛ إذ وصف «ترامب» قطر بأنها دولة راعية للإرهاب.
وكان المحللون والدبلوماسيون الأجانب، ومعهم كثير من المسؤولين في واشنطن، يتوقعون أن تضغط الدبلوماسية الأميركية، وتوقعوا من الولايات المتحدة توجيه الإحباطات السعودية والإماراتية وإجبار الجميع على حل توافقي. ولكن، بدلًا من ذلك، تبدو واشنطن مشلولة؛ بسبب التردد.
وأدّت التصريحات المتناقضة الصادرة عن وزارتي الدفاع والخارجية الأميركيتين وغيرهما إلى تعميق تصورات الانجراف الاستراتيجي. وزار «تيلرسون» الخليج في منتصف يوليو، أي بعد شهرين تقريبًا من بدء الأزمة، لكنه عاد خالي اليدين جزئيًا؛ لأن الرياض وأبو ظبي لم تريا أي سبب للاشتراك في خطته للوساطة. ولم يحصل الدبلوماسيون الفرنسيون والبريطانيون على أي حظ، ورأى الدبلوماسيون الغربيون إلى حد ما أن الأزمة «قضية داخلية» ينبغي حلها داخليًا.
وقد يكون فشل التنبؤ مفيدًا في الحصول على ميزة أمام منافس عند إبرام صفقات تجارية ثنائية، ولكنه ينطوي على قيود خطيرة كأداة لحل الأزمات الدبلوماسية المعقدة والمتعددة الأطراف. هناك أكثر من ذلك بكثير تحت سطح أزمة الخليج، وهو المنافسات الطويلة الأمد؛ إذ تعتبر قطر تهديدًا للنظام الداخلي لجيرانها، ويرجع ذلك جزئيًا إلى رعايتها لوسائل الإعلام التي تنتقدها، والإخوان المسلمين «الإسلاميون السياسيون»، ووقوفها عائقًا أمام نظام إقليمي جديد بقيادة السعودية والإمارات.
فالحالة في الخليج تكشف عن مشكلة أساسية من الشكّ في «ترامب»، ليس لمجرد أنّ أفعاله لا يمكن التنبؤ بها؛ بل لأنّ إزالة القدرة على التنبؤ بالسياسة الأميركية من المعادلة لها آثار كثيرة. إن «ترامب» لديه سوابق قليلة كزعيم أميركي، وبالتالي كزعيم للنظام الدولي ساعدت الولايات المتحدة في بناء نظام ما بعد الحرب العالمية الثانية، وانتقد «ترامب» سلفه «باراك أوباما» لقيادته الضعيفة التي قال إنها تسمح للدول المتنافسة بالاستفادة من الولايات المتحدة. ولكنّ التهم نفسها يمكن أن تكون موجّهة ضد نهجه الفوضوي الذي يوفّر إمكانية واضحة للتطرف.
كما أنّ بطء وتيرة تعيين المستوى المتوسط في وزارة الخارجية، المنوطة بإدارة مثل هذه الأزمة، يؤدي إلى تفاقم المشكلة وحسب؛ لأن قدرة البيروقراطية على تفسير التوجيهات من القمة وتنفيذها بالتالي محدودة جدًا. ويزعم مسؤولون في واشنطن أن السعودية والإمارات تستغلان عمدًا هذا الفراغ في صنع السياسات. وليس هناك سبب يمنع الآخرين أن يحذوا حذوها.
إنّ الوسائل العادية التي يمكن أن تدار بها الأزمات من الولايات المتحدة غائبة، وليس من الواضح كم من الوقت سيكون قبل استئناف الأوضاع العادية. وقد لا تعتبر أزمة الخليج درسًا موضوعيًا لمخاطر نهج «ترامب» الذي لا يمكن التنبؤ به فقط؛ بل يمكن أن تضع بذور الفوضى.