يواجه الباحثون أثناء عملهم الميداني في الشرق الأوسط معضلات وتناقضات وعقبات وسط الاضطرابات السياسية المستمرة.
وفي محاولة مركز «أوبن ديمكراسي» لإبراز المسارات والأصوات المتعددة والمتنوعة التي يواجهها الباحثون والصحفيون في الشرق الأوسط منذ ثورة يناير وبعد مجزرة رابعة العدوية، حاور «جوسيب أكونسيا»، الباحث الايطالي بجامعة بادوفا والمتخصص في التحولات والحركات الاجتماعية في الشرق الأوسط ومؤلف كتاب «مصر.. الديمقراطية العسكرية»، والذي أقام في مصر منذ 2009 وحتى 2016.
* كيف حازت الثقافة العربية اهتمامك؟
سافرت إلى الشرق الأوسط مع عائلتي منذ أن كنت صغيرًا؛ البداية إلى سوريا عام 1999، وأحببتُ هذا البلد، ثم قررت كتابة أطروحتي عن الحركة الإصلاحية في إيران؛ ولتحقيق هذه الغاية عملت في القسم السياسي في السفارة الإيطالية بطهران، واستمتعت بدراسة المجتمع المدني الإيراني، وعدت مرات إلى إيران، وهو البلد الذي بلغت فيه معظم خبراتي عن الشرق الأوسط، ومنذ عام 2005 قررت أن أتعلم نطق اللغة العربية بعد أن درستها في الكلية. وفي العام نفسه، بدأتُ العمل في مراكز الأبحاث والمنظمات غير الحكومية المعنية بحقوق الإنسان والتعاون الأورومتوسطي، وفي عام 2009 قررت ترك وظيفتي والانتقال إلى مصر.
في القاهرة، بدأتُ العمل مدرس لغة إيطالية في المدرسة الإيطالية بالمعهد الثقافي الإيطالي (الزمالك) وفي الجامعة الأميركية. فيما بعد، بدأتُ العمل صحفيًا بصحيفة الأهرام الإنجليزية، وعندما بدأتْ الأحداث في ميدان التحرير تتكشف كنتُ أقضي عطلتي في إيطاليا، ووصلت القاهرة ليلة 29 يناير 2011 (بعد أربعة أيام من المظاهرات الأولى)، ونصحنا صديق مصري بالمبيت في مطار القاهرة؛ لأن الأوضاع غير آمنة، وفي اليوم التالي رأينا أن الوضع بالفعل غير آمن.
وأخبرني صديق آخر بأن منزله تعرّض إلى هجوم من مواطنين، وفي طريقي إلى مصر الجديدة لاحظت وجود لجان شعبية، وأخبرني صديقي «حسن» بأن مسؤوليتهم الدفاع عن أنفسهم؛ لكنها مجموعات غير تكتيكية أو متجانسة، وبطريقة أخرى كانوا يحاولون سد الفراغ الأمني.
وبهذه المناسبة حاولوا إيقاف السيارة الأجرة التي نستقلها في طريقنا إلى وسط القاهرة؛ أوقفونا لأننا أجانب، لكنّ أصدقاءنا المصريين تصرفوا وتمكنا من الذهاب، لكني في النهاية كنت معجبًا بهذه التعبئة التي يقوم بها المواطنون العاديون، وكان يوجد مثلهم بالقرب من محل إقامتي في شارع طلعت حرب.
* كيف تشكّل اهتمامك بثورة 2011 والحركات الاجتماعية في مصر؟
أعتقد أن اختياري اتجاه دراستي وحبي للمنطقة ككل كان مرتبطًا ارتباطًا وثيقًا بما يسمى «الربيع العربي». وتعلمت كل ما يتعلق بالتعبئة السياسية بعد أن شاهدت أحلام رفاقي المصريين الثورية، ورأيت كيف تقاتل الشرطة ضد تطلعات الأجيال الشابة، كما استفدت من تجربتي في احتجاجات عام 2011 لتعزيز دراستي لهذه المنطقة المثيرة للاهتمام، في سياق التحول السياسي المحتمل؛ ومن هنا بدأت المتاعب.
في ذلك العام، ومنذ فبراير 2011 وحتى يونيو 2016، أصبحت مراسلًا لصحيفة «إيل مانيفيستو» اليسارية الإيطالية، التي غطت أحداث ميدان التحرير بين عامي 2011 و2015 على نطاق واسع، وتواصلت كثيرًا مع النشطاء والخبراء، واستغللت تواصلي معهم في تشكيل أفكار عن التطورات السياسية في مصر، ثم الوصول تدريجيًا إلى فهم أفضل لهذه الأحداث التي شهدتها يوميًا بنفسي. والتقيت بأشخاص عظيمين؛ من بينهم صحفيون ومدونون مثل «أهدف سويف، وائل عباس، حسام الحملاوي، علاء عبدالفتاح، محيي الدين المصري»، بينما الأحداث جارية.
ثم حصلتُ على الدكتوراه بعد إنهائي الماجستير في دراسات الشرق الأوسط. وأحيانًا أعتقد أنه كان عليّ قضاء مزيد من الوقت في مصر. وكنت مقتنعًا دائمًا بأن الأهم في أحداث ثورة يناير هو تصاعد احتجاجات الطبقة العاملة في مصر، في المحلة والسويس؛ إذ تأكدتُّ من أهمية مركزية هذه الحركات، على الرغم من التغطية «السقيمة» لهم من وسائل الإعلام الإيطالية.
وواجهتُ صعوبات أثناء مقابلتي نشطاء في السويس بين عامي 2014 و2015. أتذكر أنه عندما تركت الميكروباص الذي أوصلني من القاهرة إلى ضواحي المدينة، بدا السائق متشككًا فيّ لأنني أجنبي، وسألني عن وجهتي، وبعدما وجدت مكانًا للنوم في فندق علمت أن أمن الدولة يراقبني؛ إذ أبلغهم مالك الفندق بوجودي، ثم أتوا إلى غرفتي وطرحوا علي أسئلة، جاؤوا مرتين إلى الغرفة: مرة صباحًا وأخرى مساءً.
حاولت أن أكون ملتزمًا وأتحدث باللغة العربية بقدر ما أستطيع، لكني كنت خائفًا جدًا، ثم تواصلت مع رفاقي الثوريين وقضينا ليلة ثورية معًا.
بعدها، زرنا في هذه الليلة مسرحًا تابعًا للجيش؛ لأن شقيقة أحدهم ستؤدي عرضًا فنيًا، وفوجئت بأنه حينما لا يكون هناك اشتباكات فالمواطنون يستطيعون زيارة هذه المنطقة العسكرية لم يسألنا الأفراد العسكريون عن بطاقات الهوية أو أي وثائق أخرى.
كانت هذه واحدة من أكثر الليالي التي لا تُنسى في أعقاب الثورة. وشهدت ليالي مثلها؛ ففي يوم آخر حضرت مباراة كرة قدم في بورسعيد، وأمضينا أمسياتنا في مشاهدة باسم يوسف، وكان الجميع يشعر بالسعادة.
في السويس، أوقفت مرة بالقرب من الميناء، وسألتني الشرطة بعد احتجاز لفترة قصصيرة، وفي هذه المناسبة شعرت بأنه يجب علي إخفاء هويتي، وأن أخبرهم بأني بحار إيطالي يبحث عن عمل؛ لكني لم أفعل.
* رؤيتك لمجزرة رابعة ورؤيتك عمومًا للانقلاب العسكري…
بعد الانقلاب العسكري في عام 2013، كنت معتاد الذهاب يوميًا إلى رابعة العدوية لتغطية اعتصامات الإخوان المسلمين الداعية إلى الدفاع عن شرعية الدكتور محمد مرسي؛ وبعدما رأيت فض الاعتصام أدركت أنها واحدة من أكثر الهجمات الشنيعة على حقوق الإنسان في التاريخ المصري. كان الجو حارًا جدًا في شهر رمضان. وأفطرت كثيرًا مع المعتصمين هناك، وقضيت ساعات طويلة في المركز الإعلامي بالقرب من مسجد رابعة، وانضم إليّ مصورون إيطاليون آخرون.
في يوم المجزرة أيقظتني مكالمة هاتفية من «جهاد الحداد»، القيادي بجماعة الإخوان المسلمين، وقال إنهم كانوا يعلمون أن الشرطة ستهاجمهم. وانضممت إليهم في الساعة العاشرة صباحًا، ورأيت مشاهد مروّعة من الدماء. كنت أعرف بعضًا ممن قتلوا في ذلك اليوم. وفي ذلك الوقت كنت أعيش في منطقة العجوزة، وأتذكر أن زملائي كانوا قلقين علي، وكانوا ملتزمين بحظر التجوال، وكان يوجد بلطجية في محيط منازلنا.
في هذه الأثناء، قررت أنه من المفيد أن أبدأ دراسة أنماط التعبئة السياسية للمعارضة المصرية في السايق الحضري والإقليمي قبل ميدان التحرير وبعده؛ لكني في النهاية قررت التركيز على دراسة اللجان الشعبية في السيدة زينب والاتحادات العمالية في المحلة الكبرى، وكانت من أكثر الانتفاضات التي رأيتها إثارة وألّفت عنها كتابين بالإيطالية.
* متى بدأ المسار الذي سلكته يصبح صراعًا؟
كصحفي وباحث، كان عليّ أن أدير حالات معقدة للغاية في سياقات مختلفة جدًا، سواء في مصر أو شمال سوريا. ففي أوقات القمع السياسي في مصر يصبح من الصعب إجراء بحوث أو حتى العمل صحفيًا؛ خاصة أثناء ثورات عام 2011.
ففي صباح يوم 2 فبراير 2011، على سبيل المثال، كنت متوجهًا إلى منزلي في وسط القاهرة بصحبة أصدقاء إيطاليين، وفجأة أحاط بنا مجموعة من البلطجية في شبرا كانوا يحملون السلاسل والسيوف. ثم قبضوا علينا وسلمونا إلى المخابرات، التب استجوبتني بشكل خاص عن التأشيرات الإيرانية التي كانت بحوزتي، فيما طالب كندي بالإفراج عنا، واحتجزنا أفراد الأمن مدة قصيرة ثم أطلقوا سراحنا وأعادونا إلى وسط مدينة القاهرة في المساء نفسه؛ إذ تركونا على كورنيش منطقة الزمالك، ولا زالت الاشتباكات العنيفة بين المتظاهرين والشرطة مستمرة حينها.
وفي مناسبة أخرى شمال سوريا في يونيو 2015، اُعتُقلت مع صحفيين إيطاليين وفرنسيين آخرين ونحن في طريق عودتنا إلى تركيا بعد إجراء أبحاث ميدانية مع مقاتلي وحدات حماية الشعب، وفي النهاية طُردنا من السلطات التركية، التي كانت تمنع تغطية ما يجري في روجافا والمناطق الكردية في تركيا.
* الأوضاع البحثية بعد الانقلاب العسكري…
بعد الانقلاب العسكري في مصر عام 2013 أدركتُ أن أبحاثي في مجال العمل الميداني يمكن أن تسبب مشاكل كبرى لأصدقائي الناشطين المصريين، وكان هذا صحيحًا بشكل خاص فيما يتعلق بقضايا حساسة جدًا كنت أتعامل معها في السنوات الست الماضية، أثناء دراستي لليساريين المصريين والاتحاد المصري للنقابات المستقلة في المحلة الكبرى.
تغيرت مواقف العمال النقابيين تجاه بحثي بشكل ملحوظ بعد القمع السياسي لعام 2014. حتى النقابيون من ذوي الخبرة بدؤوا يشعرون بالقلق إزاء الذراع الطويلة للسلطات المصرية والتسلل من أجهزة الأمن (المخابرات). وكان واضحًا بشكل خاص بعد حملة تمرد، التي جمعتها جهات معارضة مختلفة لمطالبة محمد مرسي بالتنحي. ومهّدت هذه الحركة الطريق أمام الاحتجاجات في 30 يونيو 2013 واعتقال أول رئيس مصري منتخب على الإطلاق «محمد مرسي».
كانت هذه نقطة خطيرة لتدهور الأوضاع في مصر، وكانت خطيرة بشكل خاص لأي باحث أو صحفي يعمل في البلاد.
وفيما بعد، قرر المجلس العسكري استدراج شخصيات يسارية (على سبيل المثال كمال أبو عيطة) إلى الحكومة المؤقتة؛ لتسريح الطبقة العاملة. أتذكر يومًا، بينما أنا وأخي عائدان من المحلة إلى القاهرة ناقشنا ما قابلناه هذا اليوم، وأتى ذكر شيماء الصباغ وسط النقاش؛ فأخبر السائق شرطيًا أننا كنا نتحدث عن السياسة، لكن لحسن حظنا تركنا نذهب!
* المشاكل التي تواجه الأجانب الذين يأملون في إجراء البحوث في مصر…
بشكل عام، في السنوات الست الماضية شعر الأجانب في مصر بجو متزايد من الشكّ، وصوّرت وسائل الإعلام الرئيسة الانتفاضات في عام 2011 كمؤامرة يقودها الأجانب. هذا، على الرغم من أن نشطاء في الشرق الأوسط لديهم صلات سيئة جدًا مع الحركات المناهضة للنظام في بلدان أخرى.
وكان هدفًا رئيسًا للمجلس العسكري المصري منع وجود أي نوع من التضامن بين الناشطين، خاصة إذا كانوا اشتراكيين أو شيوعيين؛ وحدث ذلك بطرق مختلفة كـ«تصوير جميع الأجانب بأنهم جواسيس محتملون، وتوليد شعور شوفيني بكراهية الأجانب، ووصم الاحتجاجات الشبابية والعمالية على نحو أساسي ضد المصالح الوطنية».
وصوّرت وسائل الإعلام المملوكة للدولة جميع الأجانب بأنهم جواسيس يستمعون إلى ما يتداوله الناس على المقاهي، ومنذ عام 2013 أصبح من الصعب على نحو متزايد العمل صحفيًا وباحثًا دون التعرض إلى تهديد من الناس أو الشرطة، وطُرد عديدون من زملائي من مطار القاهرة أو نصحوا بمغادرة البلاد.
* ما الذي يمكن للباحثين فعله أمام هذه المخاطر؟
أعلم أنه بعد تعذيب جوليو ريجيني وقتله هناك فهم أفضل للمخاطر التي قد يواجهها الصحفيون والباحثون الأجانب في مصر؛ هذه هي الخطوة الأولى: أن نكون على بينة من احتمالية استهدافنا من قوات الأمن، إضافة إلى تهديدات أخرى، والخطوة الثانية عند الاعتقال يجب أن يتواصل الباحث في أسرع وقت مع من يعرفه والسلطات الدبلوماسية لدولته، ببساطة يجب الإبلاغ عن الاختفاء.
لكنّ الباحثين بشكل عام في خطر، ويجب اتخاذ خطوات تضمن حمايتهم؛ لا سيما في الأنظمة الاستبدادية.