شكّكت صحيفة «هآرتس» الإسرائيلية في قصة طرد اليهود من مصر، وقالت إنه على الرغم من أنّ المصريين أنفسهم معترفون بالقضية وعبّروا عن دمهم وصنعوا أفلامًا وثائقية وكتبوا عنها؛ هناك «حقائق» مطموثة في هذا الجانب، قائلة إنّ اليهود لم يُطردوا بشكل فعلي.
أصل القضية
تقول الصحيفة، بحسب ما ترجمت «شبكة رصد»، إنّ وزارة التربية الإسرائيلية قررت، كجزء من الجهود المبذولة لمعالجة ما وصفته بأنه الظلم التاريخي لليهود، أن تضع منهجًا جديدًا يتضمن 12 مفهومًا أساسيًا عن المجتمعات اليهودية في العالم الإسلامي، طبقًا لتوصيات لجنة عقدت العام الماضي بناء على طلب من وزير التربية «نفتالي بينيت» بشأن زيادة اهتمام المناهج الدراسية بتراث مجتمعات السفارديم واليهود «الإشكيناز».
ومن بين هذه المفاهيم الاهتمام العام بأمور عدّة تهم اليهود؛ على سبيل المثال اليهود الفارسيون والإثيوبيون، وشخصيات بارزة؛ بما في ذلك الحاخام الراحل السفاردي «أوفاديا يوسف»، وفي القرن السابع عشر الشاعر اليمني «شالوم شبازي»، والنشاط الصهيوني تحت الأرض في العراق، إضافة إلى الكوارث التي تعرّض إليها اليهود في الشرق؛ بما في ذلك التحوّل الديني القسري لليهود الفرس في مدينة مشهد، ومذبحة اليهود في دمشق في القرن التاسع عشر، وقتل يهود شمال إفريقيا في المحرقة النازية، وطرد اليهود المصريين.
وقال كاتب المقال إنّه إذا أمكن تلخيص النهج فاليهود في البلدان الإسلامية كانوا يميلون إلى كتابة أمورهم وتلخيصها بالعبرية واليهودية العربية والمشاركة في الأنشطة الصهيونية، وفي أوقات فراغهم يتعرّضون إلى الاضطهاد.
وأضاف أنه لم يوجد أيّ اهتمام بالمشاركة اليهودية في السياسة القومية أو الشيوعية، أو الأدب باللغة المحلية أو اللغات الأوروبية، أو مساهمتهم في إنشاء أوركسترا السلطة الإذاعية العراقية وصناعة السينما المصرية، أو مشاركتهم في حرب الجزائر؛ وسيسلط الضوء على واحد منهم فقط: «مسألة طردهم من مصر».
وقال إنّ الاستنتاج الذي يمكن رؤيته بوضوح ضمن المفاهيم الـ12 هو أنّ الاتصال الوحيد ليهود المزراحيين (يهود الشرق الأوسط) مع محيطهم المحلي كان بمثابة مذبحة مستقبلية لهم؛ إذ أمكنهم فيما بعد رؤية رأس يهودي فارسي على أكتاف يهودي بولندي، ورأس يهودي ألماني على أكتاف يهودي عراقي، مقادين جميعهم إلى «المحرقة».
لكن، في السياق نفسه، هل يمكن أن تشمل المفاهيم قضية «طرد اليهود المصريين»؟ قال إنّ الأمر مشكوك في رمته؛ فحتى أعمال الشغب التي وقعت في القاهرة عام 1952، التي عرفت باسم «حريق القاهرة»، يصعب القول إنّها كانت حدثًا معاديًا ويستهدف اليهود بشكل واضح.
يقول الكاتب إنه يستطيع الآن أن يشعر بالفعل بالغضب من اليهود المصريين أثناء كتابة هذه الكلمات؛ فحتى المصريون أنفسهم معترفون بالطرد ويشعرون بالندم على ذلك، بل ويصنعون الأفلام الوثائقية ويكتبون «أجزاء» من الحقيقة عن هذا الموضوع، مضيفًا: «لذلك؛ اسمحوا لي في دفاعي أن أوضّح الأمور: اليهود طردوا بالفعل من مصر، ومنذ مايو 1948، عندما أعلنت إسرائيل استقلالها، وُضِع اليهود المشتبه في أنهم ضالعون في أنشطة صهيونية أو شيوعية في معسكرات الاعتقال. وتمكن محتجزون من الحصول على حريتهم في الأشهر القليلة الأولى؛ لكنّ الذين بقوا قيد الاحتجاز حتى يوليو 1949 طردوا».
وفي عام 1956، وفي أعقاب العدوان الثلاثي (من إسرائيل وبريطانيا وفرنسا)، استأنفت الشرطة المصرية اعتقال مئات من رؤساء العائلات اليهودية دون محاكمة، وغالبًا لم يعرف أقاربهم مصيرهم، وصودرت الحسابات المصرفية لكثيرين، وأضفى الطابع الوطني على أعمالهم التجارية، وأغلقت منازلهم، واضطر كثيرون إلى التوقيع على تصريحات بأنهم تنازلوا طواعية عن ممتلكاتهم. كما أُرسل عديد منهم مباشرة من المعسكرات إلى السفن التي أخذتهم من مصر، على ألا عودة أبدًا، وختمت جوازات سفرهم برحيل دون عودة.
وبالإضافة إلى ذلك، أُجبر عديدون ممن بقوا على المغادرة؛ سواء عن طريق تخويفهم أو طوعًا لأنهم يريدون أن يكونوا مع أقاربهم، وأدرك اليهود حينها أنه لا مستقبل لهم في مصر. ولأنهم «صهاينة» في رؤية المصريين؛ كان من المستحيل البقاء حتى لو لم يُطردوا.
هاجس الاضطهاد
يقول الكاتب إنه «لا جدال في أنّ معظم اليهود في مصر لم يطردوا، ولم يكونوا الوحيدين؛ فهناك أعضاء من مجتمعات أخرى طردوا». ويضيف: «مرة أخرى ستسألون: هل هذا ما أثيرُ ضجة بشأنه؟ فمن الممكن أن يكون خطأ مطبعيًا من وزارة التربية والتعليم أو المراسل الذي كتب عن قائمة المفاهيم الأساسية. فإذا أضفنا تغييرًا طفيفًا في الصياغة فيمكن أن نسميها: طرد اليهود من مصر بدلًا من طرد اليهودِ المصريين».
وأضاف «لكنني لست مقتنعًا بأنّ هذه القضية تنطوي على خطأ مطبعي؛ بل تنطوي على هاجس الاضطهاد، الذي يعتقد كثير من الناس أنه أساس وجودنا كشعب. فبعد كل شيء، عندما نقول: طردُ اليهود المصريين، يتردد في أذهاننا وفي الذاكرة الجماعية صدى حادثة صادمة في تاريخ الشعب اليهودي، وهي طرد اليهود الإسبان وعقد محاكم تفتيش لهم؛ إذ يمكننا أيضًا أن نتخيل صفوفًا من الجنود المقنّعين الذين يجمعون اليهود المصريين في ميدان التحرير في القاهرة مع إعطائهم اختيارين: التحوّل إلى الإسلام أو الطرد. أو حتى سلبهم الاختيار وطردهم جميعًا»، مؤكدًا أن هذا الحدث ببساطة لم يحدث.
وقال: لو كان ما تحدّثت عنه وزارة التربية والتعليم حقيقيًا لأمكنها تقديم بحوث تثبت الأمر، مثلما فعلت بشأن ما حدث مع اليهود العراقيين والمذبحة اليهودية في دمشق وطرد الإسبان، وغيرها من المآسي التي تعرّض إليها اليهود في شتى الأنحاء.
طرد بعيد المنال
وأضاف الكاتب أنه لم يجد دراسة أساسية واحدة تتحدث عن طرد اليهود المصريين، مضيفًا: «على الرغم من أنني أعترف أنني لست مؤرخًا؛ ففي جميع الدراسات التي طالعتها عن اليهود المصريين لم تحصل قضية طردهم حتى على فصل كامل»، موضحًا أنه اطّلع على كتب أساسية في هذا الشأن، مثل «الجالية الهودية في مصر» لجوردون كرامر و«تشتيت المصريين اليهود» لجويل بينيين؛ ووجد أنها لم تشر إلى ما تتحدث عنه وزارة التربية والتعليم الإسرائيلية.
ولفت الكاتب أيضًا إلى كتاب «اليهود في مصر» للمؤرخ مايكل إسكندر، الذي كتب عنهم في الفترة من 1956 إلى 1958، مؤكدًا أنّ قرابة 25 ألف يهودي «خرجوا» من مصر ولم «يُطردوا»، مضيفًا: «دعونا نأخذ حتى بأسوأ السيناريوهات؛ فحتى لو طرد 25 ألفًا من أصل 60 ألف يهودي في مصر بعد إنشاء إسرائيل، فإنهم لن يتركوا 35 ألف يهودي آخرين إذا كانت لديهم سياسة واضحة لطردهم من مصر».
وفي كتاب جديد باللغة العبرية «الدقائق الخمس الطويلة: يهود مصر 1967-1970 الاعتقال والاقتلاع»، كتب أوفاديا يروشالمي، المولود في القاهرة، عن الظروف التي عاش فيها يهود مصر أثناء حرب الأيام الستة واحتجاز الذكور اليهود دون محاكمة، بما في ذلك نفسه.
ويقول في الكتاب: «بعد حملة سيناء (العدوان الثلاثي)، اعتقلت الحكومة المصرية مئات من اليهود وسجنتهم في معسكرات الاعتقال دون محاكمة ودون سبب. معظم اليهود فقدوا مصادر رزقهم. وطُرد عديد منهم بسبب كونهم مواطنين بريطانيين أو فرنسيين، واضطر آخرون إلى المغادرة بسبب مصادرة ممتلكاتهم. بعد حملة سيناء، تغيًر الشعور أيضًا بين الشباب الذين اضطروا للبقاء في مصر؛ فهم يفهمون أن مستقبلهم خارج مصر، وأنهم يخططون للمغادرة في وقت مناسب لهم».
وقال الكاتب إنّ الاقتباس الذي أورده يخبّر كثيرًا عن اليهود في مصر؛ فالعنوان يشير إلى أن اليهود وجدوا في مصر حتى أواخر الستينيات، وأضاف: «ثانيًا: نحن نعلم أنّ يهودًا ممن اعتقلوا في عام 1956 طردوا، ولكن ليس كلهم أو حتى الأغلبية. ثالثًا: كان هناك يهود يحملون الجنسية البريطانية أو الفرنسية. رابعًا: كان هناك شباب لم يُطردوا فحسب؛ بل اضطروا إلى البقاء، وسيغادرون عندما يناسبهم أمر المغادرة».
وقال الكاتب إنّ يهوديين من أصل مصري لن يكونوا سعيدين بما كتبه الآن؛ لكنه سعى على مدار السنوات الماضية إلى الاعتراف بصدمة الطرد؛ فما وجده هو أنهم أخطؤوا في وصف تجربتهم باستخدام المصطلحات من تجارب الآخرين.
لذلك؛ على سبيل المثال، أشاروا إلى معسكرات الاعتقال كمعسكرات اعتقال، وتحدثوا عن تجاربهم على أنها «نكبة اليهود في الدول العربية»، باستخدام الكلمة العربية التي تشير إلى الأحداث التي وقعت أثناء حرب الاستقلال الإسرائيلية عندما فرّ الفلسطينيون أو طردوا من البلد.
في كتاب عام 1990 عن الجالية اليهودية المصرية، هناك حتى حادثة تسمى ليلة السينما، تشير إلى يوم أعلنت «إسرائيل» استقلالها، 14 مايو 1948. ويصف الكتاب مقتل مئات الشباب المصريين اليهود في ذلك اليوم؛ ولكنّ هذا الحدث لم يقع أصلًا.
وأضاف الكاتب أنه على الرغم من ذلك لا يوجد شيء يبرر الاعتقالات والطرد، وصودرت ممتلكات أقارب له وطُرد بعضهم؛ لكن لا يجوز استخدام مصطلحات لوصف الأمر وتشبيه بما حدث لليهود في أماكن أخرى.