يرى البعض أن أسهم القضية الفلسطينية قد تراجعت كثيراً في ظل ثورات الربيع العربي التي شغلت بؤرة الاهتمام الشعبي والتغطية الإعلامية عربياً ودولياً على مدى عامين منذ سقوط بن على في تونس ثم خلع مبارك ثم إقصاء عبد الله صالح مع صمود الثورة السورية الأبية في وجه عصابات سفاحي دمشق وطهران، ويشكل تناقص الاهتمام الاعلامى مؤشراً على ضعف الموقف الفلسطيني في ظل انشغال الشعوب العربية بترتيب أوطانها من الداخل ، وانهماكها في التشكيلات الحزبية والانتخابات النيابية ، وكتابة الدساتير وغيرها من القضايا الساخنة، كما يدللون على ذلك بأن الثورات العربية قد ارتكزت أهدافها على الديمقراطية والحرية والعدالة الاجتماعية بالأساس، ولم ترفع شعارات نصرة فلسطين أو العداء للصهاينة.
على الجانب الآخر يتبين للمدقق أن الربيع العربي في جوهره يشكل انقلاباً هائلاً في موازين القوى في الشرق الأوسط مما يثمر تأثيراً ايجابياً عميقاً على مستقبل الصراع العربي الصهيوني بما يصب في صالح ميزان القوه العربية والإسلامية بل ربما يشكل خطراً حقيقياً على وجود الكيان الصهيوني في العقود القادمة، ولتتضح الرؤية علينا طرح السؤال العكسي : هل أثر الربيع العربي على أمن إسرائيل بالسلب أم بالإيجاب؟ هذا ما يمكن إدراكه من الشواهد التالية:
1-أثمر الربيع العربي عن انهيار نظام مبارك و خروج مصر من محور التبعية الصهيونية الأمريكية على يدي الرئيس مرسى ، بعد أن ارتكز أمن إسرائيل لثلاثين عاماً على مصر كحليف استراتيجي يدعم عملية السلام الوهمية لاعباً دور العراب بين المغتصب و المقاوم ، فكانت مصر شريك أساسي في حروب الخليج و اتفاقيات أوسلو و الحرب على الإرهاب ، في ظل تعاون مخابراتي مصري بقيادة عمر سليمان مع الاستخبارات الصهيونية والأمريكية وهو ما ظهر في حصار غزه و اغتيال العديد من قادة المقاومة فضلاً عن (إعلان تسيبى ليفنى) للعدوان الغاشم على غزه من القاهرة (ديسمبر2008) ، لقد فقدت إسرائيل كنزها الاستراتيجي بين عشية وضحاها و انتهت للأبد مسلٌمة خروج مصر من دائرة الصراع مع الكيان الصهيوني .
2-جاء وصول الإسلاميين للسلطة في مصر وتونس وليبيا أشبه بكابوس مفزع للصهاينة، وبخاصة بعد أن احكم الرئيس مرسى قبضته على زمام الحكم وقضى على بقايا الحكم العسكري بقرارات 12 أغسطس التي أنهت حلم إسرائيل في ازدواجية القرار المصري ، وهو ما ظهر في تصريحات( نتنياهو) التي عبر فيها عن يأسه من مرسي وأعتبر أردوغان مجرد نكتة مقارنة به مقراً بأن مصر في عهده لن تتوقف عن تصدير المفاجآت الخطيرة ،مبدياً حنقه على هيلارى كلينتون لأنه أكدت له أن مرسى لن يتدخل في السياسة الخارجية وسيتركها للعسكر ( الإذاعة العبرية، 13-8-2012 ) ، ففقدوا أي نفوذ لهم في مصر و أدركوا أنها قد خرجت من الحظيرة الأمريكية فصرح (ايهود باراك): إن أوباما يخشى أي تصعيد مع مرسي لأن مصر في عهده قادرة على إلحاق مزيد من الضعف بمكانة أمريكا متوقعاً الأسوأ في العلاقات مع مصر في الفترة القادمة ( الإذاعة العبرية، 16-8-2012 ).
3- انتقلت حركات المقاومة الفلسطينية وعلى رأسها (حماس) نقله نوعيه للأمام بعد زوال الأنظمة التي كانت تحاصرها وتلاحقها أمنياً ، وأصبحت تتلقى الدعم والتنسيق بدلاً من الحصار والتضييق ، ولا أدل على ذلك من المقارنة بين مشهد تفتيش قادة حماس ومصادرة أموالهم على معبر رفح(في العهد البائد) ، وبين مشاهد الاستقبالات الرسمية الدافئة للقياديين إسماعيل هنيه وخالد مشعل في قصر الحكومة بتونس والقصر الجمهوري بالقاهرة ، فهي مشاهد لها دلالاتها الخطيرة على أمن إسرائيل وعلى خضوع سلطة رام الله لضرورات المصالحة بل على مستقبل الصراع مع الصهاينة بجملته.
4-إن وجود دول عربيه ديمقراطية يستمد حكامها شرعيتهم من الاختيار الشعبي يؤدى حتماً لبروز أنظمه قويه تواجه أطماع إسرائيل في المنطقة وهو ما يعنى عودة الصراع لأساسه كصراع عربي إسلامي مع الصهاينة وليس صراع حدودي بين إسرائيل والفلسطينيين ، ولا غرابة في ذلك فالإسلاميين القادمين لشغل مقاعد اتخاذ القرار في دول الربيع العربي لطالما أعلنوا أن فلسطين هي قضيتهم المركزية وأن الصراع مع إسرائيل صراع وجود لكونها كيان غربي مزروع لتدمير جسد الأمة الإسلامية.
5-تشكل الثورة السورية خطراً كبيراً على أمن إسرائيل فالدخول في صراع مفتوح طويل الأمد يؤدى لفوضى سينتج عنها ظهور جماعات جهادية تقض مضجع إسرائيل في الجولان ، أما نجاح الثورة وبناء نظام ديمقراطي سيثمر نظاماً إسلامي الهوى يشكل مع مصر ضغطاً ارثيا على أعصاب الصهاينة فحينئذ تصبح الدولتان الأكبر في دول الطوق مناهضتان للمشروع الأمريكي الصهيوني وداعمتان للمقاومة الفلسطينية.
ختاماً قد يبدو أن القضية الفلسطينية قد تراجعت إلى خلفية الأحداث في الفترة الأخيرة ، لكنها تبقى المستفيد الأكبر و تظل إسرائيل هي الخاسر الأكبر من فوران ثورات الربيع العربي.