ليس في الأمر مبالغة أو محاولة لاختيار عنوان جاذب للقراء، بل هو تحول كبير جداً شهده حزب العدالة والتنمية الحاكم في تركيا، من شأنه أن يغير الكثير في واقع تركيا ومستقبلها. فقد حلَّ أ.د. نعمان كورتلموش رئيس حزب "صوت الشعب" حزبه، ثم انضم مع 221 من أعضائه لحزب العدالة والتنمية. وحتى نفهم الحكاية، دعونا نعود للبداية.
فقد أسس البروفيسور نجم الدين أربكان رحمه الله حركة الإسلام السياسي في تركيا وقاده لعشرات السنوات تحت اسم "مللي غوروش" (فكر الأمة)، وناضل كثيراً ضد الحظر والملاحقات وإغلاق الأحزاب المتتالية. لكنه ورغم نبوغه، إلا أنه كان مركزياً جداً لدرجة تصل حد الدكتاتورية في إدارته للأحزاب التي أسسها ورئسها. الأمر الذي أدى إلى انشقاقين كبيرين في تاريخه: الأول بقيادة أردوغان-غل عام 2011 حين أسسا حزب العدالة والتنمية الحاكم حالياً، والثاني بقيادة كورتلموش الذي أسس حزب الشعب عام 2010.
كان أحد أهم الأسباب التي دعت مجموعة أردوغان-غل (ومعهم العشرات من الكوادر الأساسية لحزب الفضيلة) للانشقاق وتأسيس حزب جديد، هو اختلافهم مع التحكم الشديد للراحل أربكان في كل تفاصيل العمل، إضافة لتفضيلهم العمل البناء الهادئ البعيد عن الشعارات الكبيرة المستعدية للمؤسسة العسكرية والقوى العلمانية "الكمالية". ولذلك فقد عمل حزب العدالة والتنمية كحزب "ديمقراطي محافظ"، يضم في جنباته مختلف التوجهات والأفكار الإسلامية والقومية واليمينية واليسارية أحياناً، إلا أن تقديمه الخدمات بيد نظيفة وعمل دءوب، أكسبه ثقة الشعب مرات متتالية في صناديق الانتخاب.
من ناحية أخرى، كان أ.د. نعمان كورتلموش، أستاذ الاقتصاد ذي الثلاثة وخمسين عاماً، من ضمن من بقوا في حزب الفضيلة، كرئيس لفرع اسطنبول بها، ثم نائباً لرئيس حزب السعادة، قبل أن يصبح الرئيس. وقد حقق بكاريزميته ومنهجه العلمي في العمل -وفي فترة زمنية قصيرة نسبياً- ارتفاعاً في نسبة تأييد الحزب في استطلاعات الرأي، وصلت إلى 5% (كانت أقل من 1%). إلا أنه عاد واصطدم بالحرس القديم في حزب السعادة فاضطر للانسحاب مؤسساً حزب "صوت الشعب".
كورتلموش هو الوجه الآخر لأردوغان في تركيا، لكنه غير معروف على المستوى الخارجي كما يجب. فهو أيضاً خريج ثانويات الأئمة والخطباء كما أردوغان، وقد خاضا معاً تجربة العمل الحزبي والسياسي في حزب الرفاه ثم الفضيلة، وفي الفترة التي كان فيها أردوغان رئيساً لبلدية اسطنبول كان كورتلموش رئيساً لفرع اسطنبول في حزب الفضيلة. كما أن للرجل كاريزما مميزة، وهو مشهور بدماثة الخلق والوعي والعمق، ويحظى باحترام الجميع، إضافة إلى أنه لم يعادِ العدالة والتنمية بل تبنى سياسة المعارضة البناءة في حزبه "صوت الشعب".
بعد 11 عاماً على إنشائه، يُخشى على حزب العدالة والتنمية من مشاكل ومخاطر قد تهدد وحدته واستمراره، في حال غاب رئيسه الحالي رجب طيب أردوغان أو غيّب. حيث لا يخفي رئيس الوزراء الحالي رغبته في الترشح لمنصب رئيس الجمهورية عام 2014، بينما يقدم الرئيس الحالي غل كمرشح لشغل منصب الأمين العام للأمم المتحدة، الأمر الذي يترك الحزب بلا زعامة "تاريخية" مجمع عليها، خاصة بعد توجه الرجل الثالث في الحزب بولند أرينتش نحو جماعة "فتح الله كولن" التي تشهد صراعاً خفياً على النفوذ مع أردوغان. أمر كهذا، في حزب متعدد التوجهات والأفكار، ويحكم حتى الآن بكاريزما أردوغان وقيادته المركزية المحكمة (!)، قد يضعه على مفترق طرق، في ظل غياب الفكر أو الايدولوجيا الجامعة للحزب.
هنا يأتي دور كورتلموش، رفيق الدرب القادم من أعماق "مللي غوروش"، ومجموعة حزب "صوت الشعب" التي انضم منها 221 عضواً من بينهم الهيئة التأسيسية والهيئة الإدارية وبعض الشخصيات المعروفة. فالمعلومات تشير إلى أن أردوغان سيسلم كورتلموش منصب نائب رئيس الحزب ومسئول التنظيم فيه، معطياً إياه كامل الصلاحيات في إعادة ترتيب أوراقه في الفترة القادمة.
هو إذاً عودة بطريقة أو بأخرى إلى الجذور، ومحاولة لإعادة ترتيب الأوراق وفق الفكر والأيديولوجيا التي تربى عليها هؤلاء القادة الكبار، وليس أفضل من كورتلموش ليقوم بهذا. هكذا يتجمع كل من خرج من عباءة حزب السعادة (ومن قبله الفضيلة) تحت مظلة العدالة والتنمية، بينما تبقى قيادات الحرس القديم متكلسة لا أثر لها، بعد سلسلة الانحرافات الفكرية والسياسية التي اعترت مسيرتهم، خاصة مؤخراً.
الخطوة الجريئة التي قام بها أردوغان، حرصاً على تركيا والحزب والمنجزات المكتسبة حتى الآن في مسيرة 11 عاماً من عمره، خطوة تستحق الاحترام والتقدير، والمتابعة والدراسة، إذ تحفظ الحزب الحاكم من خطر التشتت والتشرذم، وتؤسس لعهد جديد ومرحلة واعدة في عمر الحزب، مرحلة عبّر عنها كورتلموش في كلمته أثناء حفل الانضمام قائلاً: "إنه وقت بناء تركيا القوية، تركيا الجديدة، معاً".