بينما يعمّ التفاؤل حاليًا العالم كله، بنمو الاقتصادات وتراجع الحروب واندثار الفقر والمرض؛ ففي واحدة من أكثر المناطق تقلبًا وسخونة واضطرابًا في العالم «الشرق الأوسط»، تتصارع قوى أجنبية لتحديد مستقبل العالم العربي؛ وأصبح دور الولايات المتحدة فيه أكثر صعوبة، بينما تمكّنت روسيا وباقي الدول من الانتصار عليها وعلى «إسرائيل» باستراتيجيات أكثر ذكاءً ودهاءً.
هذا ما يراه الخبير السياسي في شؤون الشرق الأوسط «فريد زكريا»، في مقاله بصحيفة «واشنطن بوست» وترجمته «شبكة رصد».
في الشرق الأوسط، توجد سوريا، التي ما زالت تنهار ونزح منها قرابة المليون، ويعاني اليمن من أسوأ مجاعة في العالم، ولا توجد أيّ علامات على انتهاء الحرب في المستقبل القريب. وبالكاد يتعافى العراق من حربه ضد تنظيم الدولة، كما يحتاج إلى مائة مليار دولار لإعادة الإعمار؛ لكنه لا يمتلكها حاليًا، بينما يتجدد فيها خطر النزاعات.
أما تركيا فهي في حرب الآن مع وكلاء أميركا في المنطقة، وتتبادل «إسرائيل» وسوريا إطلاق النار. ومؤخرًا، قتلت الغارات الجوية الأميركية عشرات المرتزقة الروس في سوريا؛ وهو تصعيد مقلق بين خصوم الحرب الباردة.
الوضع في الشرق الأوسط متقلب للغاية، ويبدو أنّ إدارة ترامب اختارت الانفصال عنه، وتركّزت استراتيجيتها فقط على مكافحة التهديد الإيراني. وفي سبيل ذلك، هناك تعاقد مبطّن بين المملكة العربية السعودية و«إسرائيل». لكن، بالنظر إلى الأحداث الأخيرة؛ فالتعاقد بينهما غير معمول به حاليًا.
نجاح إيراني
في مقاله الأخير عن الشرق الأوسط، حثّ خبير الشرق الأوسط «فالي نصر» على إعادة التفكير بشكل أساسي في سياسة واشنطن تجاه إيران؛ إذ تتصرف إدارة ترامب على أساس أنّ الاضطراب في المنطقة هو السبب الأول لتنامي النفوذ الإيراني، الذي يسعى إلى نشر أيديولوجيته عبر العالمين العربي والسني، وكثيرًا ما توصف إيران في واشنطن بأنها قضية أكثر من كونها دولة.
ويرى «فالي» أنّ هذه الفرضية خاطئة، فاضطراب الشرق الأوسط لم ينتج في الأساس بسبب طموح طهران؛ بل نتيجة الغزو الذي قادته أميركا ضد العراق في 2003 وقلب موازين القوى بين الدول العربية وإيران، عن طريق الإطاحة بصدام حسين والسماح بانتشار الفوضى. وفي خضم ذلك، سعت إيران إلى العمل لمصالحها الوطنية بشكل مكثف، وسعت وراء نفوذها، وفي الوقت نفسه لم تنشر الأصولية الإسلامية؛ بل على العكس حاربت الجماعات الإرهابية مثل تنظيم الدولة.
استراتيجية إيران هذه كانت ناجحة بشكل ملحوظ؛ ونتيجة لها كوّنت طهران تحالفات محلية وإقليمية قوية في سوريا والعراق واليمن، وأصبحت في وضع يمكنها من نشر قواتها ومليشياتها، والدخول بهم على الطاولة. بينما لا يمتلك خصومها بشكل عام ما تمتلكه من مزايا؛ فـ«إسرائيل» والولايات المتحدة غريبان في قلب العالم العربي، ومعظمهما ينظرون من السماء وليس على الأرض. وغير ذلك، الهيمنة الجوية لها حدودها التي تشكلها الأوضاع السياسية على الأرض.
وقال «فالي» إنّ سوريا، التي تدعمها إيران وروسيا، تمكّنت من إسقاط طائرة حربية «إسرائيلية»؛ وهي المرة الأولى منذ 30 عاما التي تتلقى فيها «إسرائيل» ضربة عسكرية ردًا على استهدافها أهدافًا داخل العمق السوري، وهو ما يؤكّد مدى صعوبة طرد إيران وروسيا من سوريا.
في الوقت نفسه، تسير تركيا في سوريا بخطوات جريئة، بما قادته من ضربة عسكرية ضد القوات الكردية في شمال سوريا؛ على الرغم من دعم الولايات المتحدة للأكراد، وهو ما يثير احتمالية اندلاع حرب بين تركيا والولايات المتحدة، الحلفاء في حلف شمال الأطلسي.
أين الدول العربية من هذه الخطة الجيوسياسية؟
يقول «فالي» إنّ أكثر الحقائق وضوحًا بشأن الصراع على السلطة في الدول العربية هو غياب العرب؛ فالبنظر إلى النزاع الأخير، نجد أنّ كل القوى المتصارعة ليست عربية أصلًا: إيران والأتراك والروس والإسرائيليون والأميركيون، كلهم يشاركون في معارك حالية من المفترض أن تحدد شكل العالم العربي.
وتحاول إيران بكل الطرق الإبقاء على الوضع الراهن -إلى حد كبير- لأنها فازت؛ فوجودها في العراق وسوريا أصبح راسخًا، ونجا حليفها بشار الأسد؛ وهو ما يعزّز سلطتها في سوريا أكثر، بينما فشلت جهود السعودية في مكافحة نفوذ إيران في لبنان وقطر واليمن، بل وحدث العكس؛ أصبحت قطر الآن أقرب إلى إيران وتركيا، ولا تزال الانقسامات تتعمق في العالم العربي.
من جانبها، برزت روسيا قوة عالمية خارجية، احتلت مكانة الولايات المتحدة في المنطقة، وأصبحت الآن الوسيط الأوحد في الشرق الأوسط الذي يتحدث إليه الجميع وعنه، وهذا لم يحدث لأنها قوية؛ بل لأنها كانت أكثر ذكاءً.
فمنذ عام 1973، عندما طرد هنري كسينجر الروس من الشرق الأوسط كانت الولايات المتحدة القوة الخارجية البارزة في المنطقة، والآن تخسر هذا الدور؛ بسبب مزيج من الارتباك والرفض العنيد لقبول الحقائق على أرض الواقع، وكي تعود إلى سابق مكانتها؛ عليها أن تتبع نهجًا مختلفًا عما تتبعه حاليًا في التعامل مع إيران وتركيا وروسيا؛ لتحقق توازانًا واستقرارًا أكثر قوة في ما بقي من أكثر المناطق سخونة في العالم «الشرق الأوسط».