شبكة رصد الإخبارية
follow us in feedly

حسن الحوار من ضرورات الديمقراطية

حسن الحوار من ضرورات الديمقراطية
متابعة النقاشات سواء داخل مجلس الشعب أو على مواقع التواصل الاجتماعي وفي بعض البرامج الحوارية وتعليقات السادة...
متابعة النقاشات سواء داخل مجلس الشعب أو على مواقع التواصل الاجتماعي وفي بعض البرامج الحوارية وتعليقات السادة المشاهدين التليفونية؛ تؤكد أننا ربما تحولنا إلى القصة الصينية التى يدرسونها فى مقررات الإدارة والعمل الجماعي؛ بأن مجموعة من الناس على ظهر سفينة أخذوا يتصارعون والسفينة تتجه إلى صخرة ضخمة بسرعة هائلة، ولو كان فيهم من الرشد ما يجعلهم يستوعبون الخطر الذين سيقدمون عليه، لأنقذوا أنفسهم والسفينة. ولكنهم التزموا صراعهم وتناسوا الصالح العام وأغرقوا السفينة.
 
 قال صديق: «ولكن القضية ليست فى النوايا، نحن لم نتعلم فى بيوتنا أو مدارسنا أو دور العبادة كيف نتحاور بلا صراخ وأوامر وسخرية واستهزاء بل ربما شتم وسب الآخرين. فنحن نبصر، ولكن لا يوجد نور، نحن بحاجة للنور». والحقيقة أن هذا الكلام فيه الكثير من الصحة، وربما تكون نقطة البداية تدريس مقررات عن آداب الحوار ومهارات التفكير النقدى فى مدارسنا وجامعتنا. وهى مقررات قطعا أفيد من «تحفيظ» الطلاب تفاصيل المناطق التى يمر بها النيل من منابعه فى أوغندا وصولاً إلى المصب فى شمال مصر ليتذكرها الطالب فقط لأغراض الامتحان وينساها قبل أن يخرج من اللجنة استعداداً لحفظ معلومات تفصيلية لامتحان لاحق.
 
وأيا ما كان الأمر، فسأكرر جزءاً من مقال لي يناقش هذا الموضوع من باب أن نذكر أنفسنا بقواعد أساسية فى النقاشات والحوارات عساها تساعدنا على ما نحن مقدمون عليه من حروب أهلية فكرية وسياسية بشأن عشرات القضايا التى تواجهنا تباعا. ولنتخيل معا هرماً له قاعدة وله رأس وبينهما أدوار من البدائل المتاحة لنا.
 
 ●●●
 
 فأولا فى قاع الهرم هناك ما يمكن تسميته «سب الشخص» (name-calling) وهو أدنى مراتب الاختلاف ومع الأسف الأكثر شيوعاً فى نقاشاتنا وكأنه الأداة الأفضل فى إثبات وجهة النظر، مع أنه حقيقة دليل ضعف حجة وعدم القدرة على ضبط المشاعر.
 
الطابق الأعلى مباشرة فى هرم الاختلاف هو «مهاجمة الشخص» (ad hominem) ليس بالسب ولكن بتوجيه انتقادات ليس لها علاقة بجوهر الفكرة المطروحة، فننشغل بالأشخاص والأشياء أكثر من مضمون ما يقدمونه من أفكار وتحليل للأحداث. فيُتهم سياسى ما بأنه من «دراويش عبدالناصر» لأنه ينتقد أوضاع المدارس فى مصر الآن مقارنة بما كانت عليه فى عهد عبدالناصر، أو أن سياسيا آخر «من محاسيب إيران» لأنه يوضح أن إيران نجحت فيما أخفقت فيه مصر من تحقيق معدلات أداء اقتصادى وعسكرى وتكنولوجى كانت جزءا من حلمنا. ومع ذلك من الممكن أن يكون انتقاد الكاتب مبرراً إذا كان مبنياً على أسباب (حتى لو اختلفنا معها) كانتقاد من يدافع عن حزب أو جماعة بانتقائية شديدة للمعلومات أو بتزييفها. ولكن هنا لا نقول إن هذا الأسلوب هو «مهاجمة للشخص» وإنما هو انتقاد لمصداقيته أو منهجه بأدلة مرتبطة بالقضية موضع النقاش.
 
 الطابق الثالث فى هرم الاختلاف هو «مناقشة التوجه العام» (Responding to tone) وهو أقل النقاشات الجادة سوءاً. إذن نحن بدأنا نناقش نقاشاً علمياً ولكن فى أدنى مستوياته لأننا بدأنا نناقش الموضوع وليس كاتب الموضوع. وهنا يكون الانتقاد موجهاً للتوجه العام للموضوع دون تحديد أين مواضع الخلل فيها بشكل مباشر. فكأنك ترسم دائرة كبيرة على مقال وتقول هذا مقال: «متأسلم» أو «تجارة بالدين» أو أن المقال من «أوهام الليبراليين المتغربين». هذا توجه عام يمكن أن يكون مرفوضاً عند شخص ما، لكن ما الفائدة التى عادت على القارئ أو المستمع ما لم يقدم الرافض أسباباً واضحة للرفض بحيث تكون قابلة للنقاش؟
 
الطابق الرابع فى هرم الاختلاف هو «المعارضة» (Opposition) وهنا نكون بدأنا فى النقاش الجاد فعلا. فيقدم الكاتب ما يفيد اعتراضه على ما يقرأ أو يسمع مع بعض الأدلة هنا أو هناك بما يثبت وجهة نظره، وقد تكون المعارضة للفكرة المركزية (central point) أو لقضية هامشية أو استشهاد يراه المعترض فى غير محله لكن مع الموافقة على الفكرة المركزية. وسأقدم مثالاً لقارئ كريم عارض مقالا لى بطريقة أحسبها سليمة حيث قال: «كثير من المصريين الذين يعيشون فى بلاد المهجر… قد أصيبوا بداء المغالاة فى نقد الذات والوصول أحياناً بهذه الحالة من النقد إلى الجلد وإنعدام الثقة التامة فى كل ما هو مصرى وهذا ما مارسه اليوم فى مقالته أ.معتز بالله فلقد أوجز واختصر 5000 عام حضارة المصريين القدماء فى أحكام عامة كقوله (وكان المصرى تابعاً غير ذى إرادة مستقلة؛…إلخ) ناسياً ومتناسياً أن الإبداع والعبقرية لا يصنعان حضارة متقدمة ذات أركان ثابتة إلا إذا توافر لأفرادها إرادة مستقلة وقناعة إيمانية عالية». إذن أحسن أخي الكريم فى عرض فكرته بما أوضح سبب اعتراضه على ما جاء فى المقال، وإن كنت أختلف معه فى استنتاجاته».
 
 الطابق الخامس فى هرم الاختلاف يتمثل فى تقديم طرح بديل (Counterargument)، وبالتالى هو اعتراض واضح على المقولة المركزية ومعها أسباب الرفض ثم طرح فكرة مغايرة تماماً للفكرة الأصلية. وقد عقب أحد الفضلاء على مقال آخر لي بقوله: «وأخطر ما فى المقال هو أنه يقفز فوق الممكن بمعنى أنه يقول إما ديمقراطية وليبرالية كاملة أو إستبداد كامل مطلق سواء باسم الدين أو باسم العودة للحكم العسكرى ولا تدرج بينهما، لماذا لا ننتخب رئيساً غير محسوب على هؤلاء أو أولئك؟» إذن القارئ الكريم نفذ إلى جوهر الفكرة ونقضها ثم قدم طرحاً بديلاً عنها. وهذا هو جوهر الحوار الخلاق.
 
 والطابق السادس والأخير أن يكون كل ما نكتبه إما عليه دليل أو على الأقل يمكن إثباته (provable) أو يمكن دحضه (falsifiable) بالرجوع إلى مصادر معلومات وأفكار أو خبرات دول أو أشخاص آخرين حتى يمكن القياس عليها والاستفادة منها.
 
 هل تعلمون حضراتكم أن كل مجتمع بشرى احتاج قرونا كى ينتقل معظم أفراده من طابق لآخر؟ ولنأخذ مثالاً بالعقل الأوروبى حيث بذل فلاسفة اليونان جهداً هائلاً لإثبات فكرة الذات العاقلة فى مواجهة الأساطير الموروثة وحكم الكهنة، واحتاج العقل الغربى قرونا كي ينتقل من الذات الاستنباطية (سانت أوجستين) إلى الاستقرائية (بيكون)، ثم إلى الذات المفكرة والمتشككة (ديكارت)، التي لها حقوق غير قابلة للمساومة والانتقاص (كانط).
 
 ●●●
 
 وأختم بنقطة أخيرة قد تكون مفيدة؛ وهى أنه من الوارد ألا يكون شخص ما من أنصار أيديولوجية معينة فهناك ما يسمى بالمواقف فوق الأيديولوجية (trans-ideological) والتى يجد الإنسان نفسه فيها يتبنى الموقف وفقا لمعايير سواء أخلاقية أو نفعية ولكنها غير أيديولوجية. فمثلاً، أنا مصرى الجنسية، عربى اللغة، مسلم الديانة، أبحث عن الحقيقة بلا تحيزات أيديولوجية وأينما وجدتها فأعتبر نفسى أولى بها. ورغماً عن إلتزامي بالحقيقة فأنا لا أعد بها القراء الكرام، لأننى أكتشفت «حقائق» ثم يتبين لى بعد فترة من الدرس والتفكير والنقاش أنها ليست كذلك. وعليه فأنا ملتزم مع القراء الكرام بالأمانة التى تقتضي مني أن أنقل لهم ما أعلم أننى أعلم وما أعلم أننى لا أعلم وما أعلم أننى كنت مخطئاً فيه. وقد وضع الرسول الكريم أسس هذا المنهج فى الأمانة بقوله: «لا يمنعن رجلا هيبة الناس أن يقول بحق إذا علمه».


تنفيذ و استضافة وتطوير ميكس ميديا لحلول الويب تنفيذ شركة ميكس ميديا للخدمات الإعلامية 2023