على مدار أكثر من عشرين عاما، يعمل محمد كامل، في طهي الطعام لـ”موائد الرحمن”، خلال شهر رمضان المبارك.
تلك الموائد كانت تنتشر بكثرة في شوارع مصر، لإطعام الصائمين المحتاجين والمسافرين، لكن تقلص عددها بشكل واضح في الآونة الأخيرة.
يقول كامل، في حديث لوكالة الأناضول، إنه كان يتلقى كل عام عشرات الاتصالات الهاتفية، بداية من أول شهر شعبان، لحجزه هو وفريق العمل، الذي يساعده في طهي الطعام بتلك الموائد، سواء في مدينته بدلتا النيل أو خارجها في القاهرة أو الجيزة، لكن ذلك لم يعد يحدث.
ويعزو تراجع عدد “موائد الرحمن”، التي تعرفها مصر منذ مئات السنين، إلى حالة الغلاء التي شهدتها مستلزمات الموائد من مواد غذائية.
كما يشير إلى ضوابط حكومية، بينها ضرورة الحصول موافقات أمنية وتراخيص، اعتبرها غير مقبولة، لكون تلك الموائد عملا خيريا لا يستهدف التربح، لذا كان الأولى دعمها، وليس تعقيد إقامتها، على حد قوله.
في عام 2017، فرضت الحكومة اشتراطات لإقامة “موائد الرحمن”، بينها الحصول على موافقات أمنية وترخيص من الحي، وعدم إقامتها في شوارع رئيسية ولا ميادين، وتوافر وسائل الأمان والحماية المدنية بها لمنع الحرائق، وخضوع الموائد لإشراف الطب البيطري والصحة، لمتابعة الاشتراطات الصحية والأطعمة المقدمة.
ويضيف كامل أنه رغم الغلاء والاشتراطات الحكومية تتمسك عائلات بإقامة الموائد، باعتبارها عادة توارثتها عن أجدادها، مع تقليل كميات الوجبات.
ويشير إلى أنه يعمل حاليا في مائدة هي الأكبر في محافظة الغربية : “كنت أعمل بها في 2012، وكانت تعد نحو 2500 وجبة، لكن حاليا 1500 فقط”.
ويضيف أن آخرين يقيمون “موائد الرحمن” مع تقليل اللحوم، وتقديم دواجن مكانها في بعض الأيام، أو الاكتفاء بـ”الوجبة الجافة”، وهي إما مكرونة وبيض أو أرز ونوع من الخضروات.
مائدة تشاركية
من رحم الأوضاع الاقتصادية، ظهر نوع جديد من الموائد، عبر التشارك بين عدد من الأفراد، كل حسب إمكانياته، في إقامة مائدة واحدة.
محمد طاحون، محاسب، يقول إنه ومجموعة من أصدقائه كانوا يخرجون، لمدة ثلاث سنوات، إلى الطرقات أثناء أّذان المغرب، لاستيقاف المارة وإعطائهم وجبات خفيفة، عبارة عن عصائر أو أطعمة مغلفة.
ويضيف للأناضول أن أحد أصدقائهم طرح قبل شهر فكرة إقامة مائدة ثابتة في مدينة 6 أكتوبر (غرب العاصمة)، لكن وقف أمامهم التمويل والمكان.
ويضيف أنه بمجرد طرح الفكرة بينهم لاقت قبولا كبيرا، وأعلن كثيرون مشاركتهم، سواء بالجهد أو المال، وغالبيتهم كانوا من المسافرين للعمل خارج مصر.
ويلفت إلى أنهم لم يكونوا يعلمون بالاشتراطات الحكومية، وهي “مكلفة كثيرا، ولم تكن في الاعتبار، سواء عبر شراء أسطوانات إطفاء أو توفير طبيب بيطري، فضلا عن الرسوم الإدارية”.
ويقول طاحون إنه كان يتوقع أن تكفي الأموال لإطعام عدد كبير من الصائمين، لكن أسعار الأواني والموائد والكراسي كانت أكبر من إمكانياتهم، ولذاك يقدمون الإفطار لنحو 75 شخصا فقط يوميا.
غياب الجمعيات
سعيد صادق، أستاذ علم الاجتماع السياسي، يرى أن الفقر وغياب جمعيات جماعة الإخوان المسلمين، المحجوز عليها حاليا، هي أحد أهم أسباب تقلص ظاهرة “موائد الرحمن”، لكنه يعتقد أنها ستستمر.
ويضيف صادق للأناضول أن أحدث إحصائية للبنك الدولي، مطلع مايو الجاري، أفادت بارتفاع نسبة الفقر إلى 60%، وتأثر طبقات كثيرة جراء الإصلاحات الاقتصادية.
ويوضح أن جماعة الإخوان (كبرى جماعات الإسلام السياسي) ونواب برلمانيين كانوا يمثلون “رأس مال اجتماعي”، ومع سجنهم والحجز على أموالهم، ظهر ذلك التأثير السلبي على ظاهرة “موائد الرحمن”.
حالة الغلاء
متفقا مع صادق، يقول الخبير الاقتصادي المصري، شريف الدمرداش، إن غياب دور “الإسلام السياسي” كان له تأثير كبير على تقلص أعداد “موائد الرحمن”، حيث غاب جانب كبير من الجمعيات الخيرية التابعة لهم.
وعقب الإطاحة، في 2013، بمحمد مرسي، أول رئيس مدني منتخب ديمقراطيا، صدرت قرارات بمصادرة أموال عناصر وقيادات بجماعة الإخوان (ينتمي إليها مرسي)، دون بيانات إجمالية عن حجم الموجودات والأموال المتحفظ عليها.
ويضيف الدمرداش للأناضول أن انخفاض القوة الشرائية للجنيه المصري يعد سببا رئيسيا في قلة عدد “موائد الرحمن”.
ويوضح أن الخلل بين الدخول والأسعار أصاب الكثيرين، حتى أصحاب الشركات، فمن كان يصرف 200 ألف جنيه (11 ألف دولار) لإعداد مائدة أصبح مطلوب منه 500 ألف جنيه (30 ألف دولار).. البعض يستطيع، والغالبية لا تستطيع.
ويشير إلى أن بعضهم اتجه إلى إلغاء المائدة، وآخرون اضطروا إلى ترشيد النفقات وكميات الطعام؛ بسبب حالة الغلاء.