نشرت مجلة «فورين بوليسي» مقالا تحدثت فيه عن «جناية» الولايات المتحدة ودول الخليج على الديمقراطية بالعالم العربي.
فورين بوليسي وفي الذكرى العاشرة لثورات الربيع العربي، نشرت مقالا للصحفي أوز كاترجي، قال فيه إن العالم تغير في 17 ديسمبر 2010، إلى الأبد بفعل تصرفات رجل واحد، في إشارة إلى البائع المتجول التونسي محمد البوعزيزي الذي أحرق نفسه احتجاجا على تضييق الشرطة غير المبرر عليه.
بعد 28 يوما فقط، أطاحت ثورة الياسمين التونسية بالرئيس زين العابدين بن علي، مدفوعة بالغضب المبرر لشعب شهد ما يكفي، وهو رد فعل ليس فقط على يأس وقهر بائع متجول يبلغ من العمر 26 عاما، لكن للإذلال والقمع الروتيني لعقود عديدة، بحسب الصحيفة.
وتاليا ترجمة «عربي21» لمقال «فورين بوليسي»:
كان أحد الأسئلة المتكررة خلال الأيام الأولى للربيع العربي هو ما إذا كان العالم العربي مستعدا للديمقراطية، اليوم وبعد 10 سنوات، من الواضح أن هذا كان دائما السؤال الخطأ. فقد فكك الجمهور العربي بشكل منهجي عقودا من الصمت تحت القمع بين عشية وضحاها. كان السؤال دائما ما إذا كان بقية العالم مستعدا لدعمهم. يجب أن تكون الإجابة على هذا السؤال واضحة بعد عقد من إراقة الدماء في الشرق الأوسط مع اللامبالاة المطلقة للقوى العالمية.
وتابعت: «على مدى أجيال، تضخمت الديكتاتوريات في الشرق الأوسط وزاد اطمئنانها، يوازي ذلك اعتقاد هذه الأنظمة الخاطئ بأن أجهزتها الأمنية يمكن أن ترهب شعوبها كي تخضع إلى الأبد، ولكن بحلول عام 2010، لم تعد تلك الديكتاتوريات تحتكر المعلومات. وجلبت سهولة الوصول إلى الإنترنت في الشرق الأوسط وسائل التواصل الاجتماعي، ومعها الوصول إلى نوع من المنصات للأفكار والنقاشات التي حظرتها وقمعتها وجرمتها العديد من هذه الديكتاتوريات بشكل فعال في العقود السابقة».
في ظل هذه الظروف الجديدة، لم يعد انتحار شاب تونسي في مدينة سيدي بوزيد الصغيرة قصة محلية مختصرة لا تحظى إلا بحيز صغير هامشي في إحدى الصحف التي تسيطر الحكومة عليها، بل كانت مأساة أثارت غضبا واسع النطاق وانتفاضة مدنية من شأنها أن تؤدي إلى سقوط ديكتاتورية استمرت 23 عاما في غضون 28 يوما فقط.
لم يكن التونسيون وحدهم. فمع مشاهدة الأحداث في تونس، اندلعت الاحتجاجات المدنية في جميع أنحاء الشرق الأوسط في سلسلة من الانتفاضات التي أصبحت تعرف باسم الربيع العربي. لقد عاش الشرق الأوسط سابقا لأجيال في ثقافة الخوف والصمت، حيث كان النقد العلني الخفيف للسلطات السياسية يؤدي إلى الاعتقال التعسفي والتعذيب وحتى الموت. ولأول مرة في حياة الكثيرين، تم كسر هذا الصمت أخيرا، وأصبح الطغاة الآن هم الذين يرتعدون من الخوف.
بعد بن علي والرئيس المصري حسني مبارك وعلي عبد الله صالح في اليمن وفي النهاية سقط معمر القذافي. امتدت الانتفاضات إلى البحرين وسوريا، حيث كان نظام الأسد في السلطة لمدة أربعة عقود.
ومع ذلك، كان الربيع العربي والحركات السياسية التي نشأت نتيجة له أقل اتحادا حول أهداف ديمقراطية جماعية مما كانت عليه حول رفض عقود من الحكومات الفاشلة. بدأت الانتفاضة في سوريا، على سبيل المثال، على شكل احتجاجات إقليمية صغيرة تدعو إلى إصلاحات سياسية، وليس إسقاط الديكتاتورية. ولم تتغير هذه الدعوات في النهاية إلا بعد أن قوبلت الدعوات الأولية بعنف ساحق.
ولكن عدا القرب الجغرافي والتاريخ المشترك للعيش في ظل الدكتاتورية، لم يكن لدى انتفاضات الشرق الأوسط سوى القليل جدا من القواسم المشتركة، إلى جانب الهتاف الذي انتشر بشكل جماعي في جميع أنحاء المنطقة: «الشعب يريد إسقاط النظام».
هذا الشعور بالتفاؤل، هذا الشعور الملموس بأن الحريات الديمقراطية يمكن أن تصل أخيرا إلى الناس في جميع أنحاء الشرق الأوسط، كان خطيرا للغاية على الديكتاتوريات والأنظمة الملكية الوراثية التي حكمتهم لدرجة أنهم أمضوا السنوات التسع التالية في حرب ضد شعوبهم، وتمليح الأرض للتأكد من أن الحركات الديمقراطية التي أرعبتهم لن تتجذر مرة أخرى.
قُتل المئات من المحتجين على أيدي قوات الأمن في البحرين وليبيا في الأسابيع القليلة الأولى من الانتفاضات. تم سحق احتجاجات البحرين، وبدأ عدد القتلى في ليبيا في الازدياد المضطرد، مما أدى إلى استجابة مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، وفرض منطقة حظر طيران يفرضه حلف الناتو، مما أدى في النهاية إلى سقوط القذافي وإعدامه خارج نطاق القضاء من قبل المتمردين الليبيين في شوارع سرت في 20 أكتوبر 2011.
بحلول ديسمبر 2011، قتل نظام الأسد أكثر من 5000 مدني، العديد منهم من المتظاهرين الذين قتلوا بالرصاص في شوارع سوريا، أو اعتقلوا وعذبوا حتى الموت. بحلول عام 2020، أصبحت سوريا أسوأ حرب في القرن الحادي والعشرين، حيث تخلت الأمم المتحدة رسميا عن إحصاء عدد القتلى في عام 2014 وحيث كان آخر تقدير أكثر من 400 ألف قتيل في أبريل 2016، مع توقع ارتفاع الرقم الحقيقي إلى حد كبير منذ ذلك الحين.
لا توجد طريقة لتجميع تأثير الانتفاضات العربية بدقة في دروس مطمئنة للمستقبل. وفي حين أن عدد القتلى والأضرار التي لحقت بالبنية التحتية في ليبيا ظلت أقل بكثير من إراقة الدماء في سوريا، إلا أنه لا يمكن اعتبارها قصة نجاح. في حين أن منطقة حظر الطيران التي فرضها الغرب قللت من معاناة المدنيين ولم تكن تهدف أبدا إلى بناء دولة، فإن الحرب الأهلية وأسواق عبيد المهاجرين وتدهور أوضاع حقوق الإنسان تظل إرثا مخزيا للمجتمع الدولي الذي تدخل، لكنه فشل في المتابعة.
الأمور أفضل قليلا في بلدان أخرى، حيث تم سحق الثورات أو سقوطها تحت وطأة الثورات المضادة القومية أو الإسلامية.
وفي كثير من الحالات، وخاصة سوريا، لم يتم سحق الانتفاضة من الداخل، بل من الخارج، حيث لم تسقط إلا بعد التدخل العسكري الشامل لإيران وروسيا.
كما تعرضت المصالح الثورية السورية لمزيد من زعزعة الاستقرار والاستقطاب والفساد من قبل قطر وتركيا.
وتستمر الديكتاتوريات في مصر واليمن والبحرين في تلقي الشرعية والدعم من دول الخليج، تماما كما تستمر دول الخليج في توفير الشرعية والدعم لأمير الحرب الليبي المحاصر خليفة حفتر في هدفه للسيطرة على البلاد من حكومة الوفاق الوطني العاجزة والمدعومة من تركيا والمعترف بها من قبل الأمم المتحدة.
دول الخليج ليست الجاني الوحيد. فاحتضان أمريكا للطغمة العسكرية للرئيس المصري عبد الفتاح السيسي من الحكومة الأمريكية، والذي بدأ في عهد الرئيس السابق أوباما، حتى بعد مقتل 1000 مدني خلال مذبحة ميدان رابعة، تم تلخيصه تماما من خلال الرئيس المنتهية ولايته، دونالد ترامب الذي أشار إلى السيسي بأنه «ديكتاتوري المفضل»، في قمة دولية أواخر العام الماضي.
وفرنسا، التي لعبت دورا حاسما في إضفاء الشرعية على حفتر الليبي إلى جانب حلفائها الخليجيين، احتضنت أيضا نظام السيسي، حيث منح الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أعلى وسام فرنسي للديكتاتور المصري الأسبوع الماضي.
هذه الدائرة من الصراع لم تنته بعد. وتُظهر الاحتجاجات والصعوبات الاقتصادية المستمرة في لبنان والعراق أن شهية الجمهور للتغيير الديمقراطي لا تزال مشتعلة بقوة، حتى بعد عقد من الاحتجاجات الإقليمية المدمرة والنزوح الجماعي واللامبالاة الغربية.
وتستمر المنظمات الشيعية الإقليمية شبه العسكرية الإيرانية وتقنياتها الوحشية في تصعيد التوترات، وتجد المنظمات الأصولية السنية غير الحكومية أرضا خصبة في خضم الفوضى. كما أن العوامل الاقتصادية والاجتماعية – السياسية التي أدت إلى اندلاع انتفاضات الربيع العربي أسوأ بكثير مما كانت عليه في عام 2011، وذلك قبل أن تدرك المنطقة تماما التأثير الاقتصادي لوباء كورونا.
قد يكون الربيع العربي قد انتهى، لكن الانتفاضات المدنية في الشرق الأوسط بالكاد بدأت. ويجد الشرق الأوسط نفسه الآن في حالة من التقلبات التي وصفها كارل ماركس بالثورة الدائمة، وتطلعات شعوبه تتمازج بشكل دائم ولكنها لا تتحقق أبدا. لا توجد طريقة لأن تعيد الديكتاتوريات عقارب الساعة إلى عام 2011، ولا توجد رغبة من جانب مواطنيهم لقبول الوضع الراهن الذي يحرمهم بشكل دائم من حقوقهم. فالحال هو أن ملح البارود أكثر جفافا مما كان عليه في أي وقت مضى وكل ما يحتاجه الآن هو الشرارة التالية.