أسامة جاويش يكتب:
«فشل أو تعثر»، تلك هما أكثر الكلمات اقترانا بعبارة «سد النهضة» إذا ما قمت بالبحث عبر محرك البحث جوجل.
فشل المفاوضات وتعثر جلسات الحوار بين الأطراف الثلاثة مصر والسودان وإثيوبيا، للأسف كانت هذه هي نتيجة اجتماعات مارثونية بين دولة المنبع ودول المصب بشأن سد النهضة الإثيوبي، وتأثيره المباشر على حصة مصر والسودان من مياه النيل الذي يعتبر شريان الحياة الرئيسي لأكثر من مائة مليون إنسان.
في مصر يعيش أكثر من أربعين في المائة من السكان على الزراعة، ما يعني أن ما يقارب الأربعين مليون مصري يعيشون تحت تهديد كبير؛ أولا بالعطش، وثانيا بنقص حاد في مياه النيل الشريان الرئيسي لآلاف الأفدنة الزراعية من شمال مصر إلى جنوبها.
تابعت جلسة مجلس الأمن الطارئة بخصوص أزمة سد النهضة، ولفت انتباهي أن أكثر ما تمت الإشارة له هما: الاتحاد الأفريقي واتفاق المبادئ، في إشارة إلى دور الاتحاد الأفريقي في رعاية المفاوضات بين الدول الثلاث، وأن المرجعية الحاكمة لكل ما يجري هو اتفاق المبادئ الذي وقع عليه السيسي وعمر البشير وميريام ديسالين في مارس 2015.
لم يصدر أي قرار بإدانة إثيوبيا أو التلويح بأي إجراء أممي ضد إعلانها البدء في الملء الثاني لخزان سد النهضة، ما يعني بأن الكرة عادت إلى ملعب الاتحاد الأفريقي مرة أخرى، وهو ما تريده إثيوبيا منذ أن أعلن الاتحاد الأفريقي رعايته لجولة جديدة من المفاوضات في يونيو 2020، وهي المفاوضات التي فشلت أيضا وتم الإعلان عن توقفها في ديسمبر من نفس العام، على لسان وزير الخارجية المصري سامح شكري.
في كلمته داخل مجلس الأمن، هدد الوزير المصري الجميع بأن مصر ستتدخل لحماية حقها، في إشارة ربما لتدخل عسكري وشيك من الجيش المصري بقيادة السيسي لتوجيه ضربة مباشرة لسد النهضة، ما يجعل استكمال العمل به أمرا شبه مستحيل. ولكن هذه ليست المرة الأولى التي يرسل النظام المصري بعض التهديدات للجانب الإثيوبي، فقد أعلن السيسي في أكتوبر 2019 أن مصر بكل مؤسساتها ملتزمة بحماية الحقوق المائية المصرية في مياه النيل، ثم عاد وكرر تهديده بأنه لن يسمح بالمساس بمياه النيل، كما أجرت مصر والسودان ثلاثة تدريبات عسكرية مشتركة حملت أسماء: «نسور النيل 1 و2»، وآخرها استمر حتى نهاية مايو باسم «حماة النيل».
ولكن هل يصدق المصريون تلك التهديدات؟ وهل يثق الشعب المصري حقا في وعود السيسي وتصريحاته بشأن أزمة سد النهضة؟
بالعودة للوراء قليلا قبيل الانقلاب العسكري في يوليو 2013 سنجد أنه في عهد الرئيس الراحل محمد مرسي وتحديدا في مايو 2013 أصدرت لجنة الخبراء الدوليين تقريرها، بضرورة إجراء دراسات تقييم لآثار السد على دولتي المصب. وقد توقفت المفاوضات بعدما رفضت مصر تشكيل لجنة فنية دون خبراء أجانب، ولكن اللافت للنظر أنه وبالتزامن مع انتخاب السيسي رئيسا للبلاد في يونيو 2014 اتفقت الدول الثلاث على استئناف المفاوضات مرة أخرى، ثم عقد بعدها بأشهر قليلة الاجتماع الأول للجنة الثلاثية بمشاركة ممثلين عن الدول الثلاث.
الأزمة الكبرى حدثت في مارس 2015، يوم وقع السيسي على اتفاق المبادئ والذي تستند إليه إثيوبيا في كل إجراءاتها حتى الآن. منذ ذلك اليوم الذي تنازل فيه السيسي بمحض إرادته عن مياه النيل؛ بات الفشل والتعثر هما المحصلة لأي اجتماع بين الدول الثلاث.
في نوفمبر 2017 أعلن وزير الري المصري عدم التوصل لاتفاق، بعد رفض إثيوبيا والسودان للتقرير المبدئي، وتكرر المشهد ذاته في أبريل 2018 عندما فشل الاجتماع التُساعي الأول لوزراء الخارجية والمياه ورؤساء أجهزة المخابرات. ثم عاد وزراء الري في البلدان الثلاثة مرة أخرى ليعلنوا فشل اجتماع اللجنة الفنية في سبتمبر 2018.
كانت تصريحات السيسي في هذا التوقيت كلها تتحدث عن طمأنة الشعب المصري بأن كل شيء على ما يرام، حتى أنه قال كلمته الشهيرة «اطمئنوا» فلن يحدث شيء. وكان الجنرال يبتكر وسائل جديدة لطمأنة الرأي العام المصري، تجلت في أكثر المشاهد كوميدية في التاريخ الحديث عندما طلب من رئيس الوزراء الإثيوبي في يونيو 2018 ترديد التعهد الشفهي وراءه قائلا: «والله العظيم لن نضر مصر».
الفشل المتكرر والمستمر منذ مارس 2015، أفقد المصريين الثقة في هذا النظام ووعوده بحل الأزمة. ظهر ذلك أيضا بعد فشل الاجتماعات الأربعة التي رعتها إدارة الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، والتي بدأت في نوفمبر 2019 وانتهت بإعلان فشل التوصل لاتفاق في يناير 2020.
عندما أعلنت إثيوبيا انتهاءها من الملء الأول لخزان سد النهضة في يوليو 2020، كان أقصى ما طالبت به مصر هو اللجوء لمجلس الأمن، وهو ما انتهى بإعلان الاتحاد الأفريقي رعايته لجولة جديدة من المفاوضات انتهت بالفشل كالعادة، والإعلان عن ذلك رسميا في نوفمبر ديسمبر 2020.
في كل مرة كان الجانب الإثيوبي يفعل ما يريد ويتقدم خطوة فخطوة نحو الملء الثاني لخزان سد النهضة، في حين اكتفى النظام المصري بإعلان فشل جولات المفاوضات والذهاب لمجلس الأمن، والتلويح في عام مرة أو مرتين بالتدخل العسكري، ولكن دون جدوى حقيقية أو فعالية وتأثير إيجابي لصالح الأمن المائي المصري.
الآن لم يعد المواطن المصري يصدق تصريحات السيسي ونظامه، وبات العطش خطرا حقيقيا يطرق أبواب مائة مليون مصري، ومثلت جلسة مجلس الأمن الأخيرة المسمار الأخير في نعش مسار المفاوضات التي لن تنتهي إلا بانتهاء إثيوبيا من سد النهضة، تاركة وراءها ملايين المصريين والسودانيين يعانون من خطر العطش وفقدان شريان الحياة الأول لهم: نهر النيل.