واصلت صحيفة عبرية، حديثها عن المجازر التي ارتكبها جيش الاحتلال الإسرائيلي بحق أبناء الشعب الفلسطيني في حرب 1948، التي تمكن فيها من احتلال فلسطين وطرد الشعب الفلسطيني من وطنه وأرضه، إضافة لتدمير المئات من القرى والمدن الفلسطينية.
وأظهرت وثائق إسرائيلية سرية ما زالت أجزاء منها مظللة بالأسود، حجم الجرائم البشعة وأعمال القتل والإبادة والتطهير العرقي والسرقات التي نفذها جنود جيش الاحتلال ضد الشعب الفلسطيني الأعزل في تلك الفترة.
وبحسب تقرير صحيفة “هآرتس” الذي أعده الباحث الإسرائيلي آدم راز وترجمته “عربي21″، فإن الشهادات الإسرائيلية واصلت كشف النهج الإجرامي والقتل الجماعي الإسرائيلي بحق الفلسطينيين، من أطفال ونساء وشيوخ وغيرهم، إضافة إلى إفشال عمل لجنة التحقيق المزعومة في المجازر المنفذة.
ونبهت إلى أن رئيس وزراء الاحتلال في حينه، دافيد بن غوريون، أعلن عن إلغاء لجنة التحقيق، وقالت: “لم يكن مهتما بإجراء تحقيق كامل في جرائم الحرب” التي ارتكبها جنود الاحتلال بحق الشعب الفلسطيني، وهذا ما أدركه وزراء حكومته.
وأكدت أن قادة الاحتلال كان يتلقون أولا بأول التقارير عن المجازر التي صاحبت اجتياح قوات الاحتلال الإسرائيلي المدججة بالسلاح للقرى العربية، منوهة إلى أن “الوثائق الأصلية ما زالت غير متاحة بالكامل، ومازال أي ذكر مباشر لجرائم الحرب مظللا بالسواد”.
ولفتت إلى أن “قانون الصمت، ساعد أولئك الذين رغبوا في كنس الجرائم وإخفائها تحت البساط تجنباً للتحقيقات وللإدانات”، مضيفة أنه “حتى أولئك الذين لم يستفيدوا من الصمت والتستر وحوكموا على جرائم ارتكبوها أثناء الحرب، ما لبثوا أن أخلي سبيلهم، وصدر في فبراير 1949 عفو عام بأثر رجعي على أي جرائم ارتكبت أثناء الحرب”.
اقرأ أيضا: وثائق سرية تكشف مذابح الاحتلال في فلسطين عام 1948 (ج1)
الترجمة الحرفية للجزء الثاني من نص تقرير صحيفة “هآرتس” الإسرائيلية
“هذه مسألة يهودية”
في الفترة من نوفمبر إلى ديسمبر من 1948، عندما تراجع نوعاً ما ضغط الحرب، تحولت الحكومة إلى مناقشة التقارير التي تحدثت عن ارتكاب مجازر وكانت تصل إلى الوزراء بأشكال مختلفة. من يتابع محاضر هذه الاجتماعات لا يبقى لديه أدنى شك في أن قادة البلد كانوا يعرفون في حينه وأولاً بأول عن الأحداث الدموية التي صاحبت اجتياح القرى العربية.
والحقيقة، أن محاضر جلسات الحكومة من تلك الفترة غدت متاحة لاطلاع الجمهور منذ مطلع عام 1995، إلا أن المقاطع التي تشتمل على النقاشات التي كرست “لسلوك الجيش في الجليل والنقب” – وهو المصطلح الذي كان مدرجاً على أجندة مجلس الوزراء – بقيت مظللة بالأسود وممنوعة من النشر حتى قبل أيام قليلة مضت، ولم يصبح التقرير الحالي ممكناً إلا بعد تقديم طلب إلى مسؤول الأرشيف في إسرائيل من قبل معهد أكيفوت.
وحتى الآن، ما زالت الوثائق الأصلية غير متاحة بالكامل، وما زال أي ذكر مباشر لجرائم الحرب مظللاً بالسواد، أما المراسلات بين الوزراء أنفسهم حول مسألة ما إذا كان ينبغي التحقيق في الجرائم أم لا – وهي المراسلات التي ظلت مخفية طوال 73 سنة – فهي الآن متاحة للباحثين والصحفيين والمواطنين من أصحاب الفضول. وهنا نموذج لما كان عليه الحال في اجتماع الحكومة المنعقد في السابع من نوفمبر 1948:
وقال وزير الهجرة والصحة حاييم موشيه شابيرا (هابويل هاميزراحي): “أن تذهب إلى ذلك الحد محرم حتى في أوقات الحرب، هذه الأمور وردت أكثر من مرة في اجتماعات مجلس الوزراء، وتحقق وزير الدفاع وطالب، وصدرت أوامر. أعتقد أنه من أجل إعطاء الانطباع بأننا نأخذ هذه المسألة على محمل الجد، يتوجب علينا اختيار لجنة وزارية يسافر أعضاؤها إلى تلك الأماكن لكي يروا بأنفسهم ما الذي جرى، يجب معاقبة من يقومون بمثل هذه الأعمال، المسألة لم تكن سراً، اقتراحي هو اختيار لجنة من ثلاثة وزراء تناط بهم مهمة التعامل مع هذه المسألة الخطيرة”.
وقال وزير الداخلية يتسحاق غروينباوم (جنرال زيونستس): “وأنا أيضاً أنوي توجيه سؤال في نفس الموضوع، تنامى إلى علمي وجود أمر بتطهير المنطقة”، وعند تلك اللحظة روى غروينباوم حكاية ضابط قام بنقل السكان في حافلة إلى خطوط العدو، حيث طردهم، مضيفا: “لكن يبدو أن الآخرين ينقصهم نفس الذكاء ونفس الإحساس، يبدو أن الأوامر يمكن أن تنفذ بوسائل أخرى”.
عند هذه النقطة كثير من سطور الكلام المدون يصبح مطموسا
يقول وزير العمل موردخاي بنتوف (مابام): “يزعم الناس الذي قاموا بهذا العمل بأنهم تلقوا أوامر بذلك، يبدو لي أننا ما كنا في قضية من القضايا بمثل هذا العجز الذي نحن فيه الآن تجاه هذه المسألة، في رأيي هذه ليست مسألة عربية، بل هي مسألة يهودية، والسؤال: أي اليهود سيبقى في البلد بعد الحرب؟، لا أرى سبيلاً سوى اجتثاث الشر بيد قوية، ونظراً لأننا لم نر هذه اليد القوية في مقرات {الجيش} أو في وزارة الدفاع، فإنني أؤيد مقترح السيد شابيرا بتشكيل لجنة تمنحها الحكومة الصلاحية للتحقيق مع أي شخص تريد، من الضرورة بمكان التحقيق مع الرتب القيادية المتسلسلة، فمن الذي تسلم الأوامر ممن، وكيف تتم الأمور دون أوامر مكتوبة، هذه الأمور تتم بناء على أسلوب معين، وها قد تبين أن الأمر شيء والإجراء شيء آخر تماما”.
وقال رئيس الوزراء ووزير الدفاع دافيد بن غوريون (ماباي): “إذا هربوا، فلا يوجد داع للجري وراءهم، ولكن الأمر يختلف في حالة السكان الذين يبقون في أماكنهم، وتقوم جيوشنا بمطاردتهم، ذلك يمكن منعه، لا حاجة لمطاردتهم، في اللد والرملة صدرت أوامر صريحة بعدم مطاردة السكان ثم تبين أنهم أجبروا على المغادرة، أردت أن أتوجه إلى اللد في الأيام الأولى للفتح، وقدمت لي بعض الأعذار لماذا يجب علي ألا أذهب، في المرة الأولى قبلتها بسذاجة، والمسألة الأكثر خطورة هي المتعلقة بالسرقة، الوضع بهذا الشأن لا يحتمل”.
“فردوس الحمقى”
انتهى اجتماع السابع من نوفمبر عام 1948 بقرار يقضي بتعيين لجنة من ثلاث وزراء للنظر في الشهادات حول المجازر، تشكلت اللجنة من كل من حاييم موشيه شابيرا، وبنتوف، ووزير العدل بنهاس روزنبلوث (روزن) من الحزب التقدمي، بعد ذلك بأسبوع أخبروا مجلس الوزراء بأن الصلاحيات المحدودة التي منحت لهم لم تمكنهم من الوصول إلى حقيقة الأمر، مرت ثلاثة أيام أخرى، واجتمعت الحكومة تارة أخرى لمناقشة التحقيق في الجرائم.
قال بنتوف: “معروف لدي أن هناك دوائر داخل الجيش تريد تخريب قرارات الحكومة”.
وقال شابيرا: “يجب أن نجد أفضل السبل لوقف الطاعون، فالوضع في هذه المسألة أشبه ما يكون بالطاعون، استمعت اللجنة اليوم لشاهد واحد، ولقد دفنت وجهي في يدي خجلاً وخزياً، إذا كان ذلك هو الوضع، لا أدري من أي جهة يتربص بالدولة خطر أكبر – من جانب العرب أم من جانبنا نحن. في رأيي، جميع أسسنا الأخلاقية تقوضت ونحتاج للبحث عن طرق للجم هذه النزعات، لقد وصلنا إلى هذا الوضع لأننا لم نعرف كيف نتحكم بالأمور عندما بدأت للوهلة الأولى، انطباعي هو أننا نعيش في فردوس الحمقى، إذا لم يحدث تغيير، فإننا حينها نكون قد قوضنا بأيدينا الأساس الأخلاقي للحكومة”.
وقال وزير الزراعة أهارون زيسلنغ (مابام): “تلقيت رسالة من شخص معين بشأن هذه المسألة، يجب أن أقول لكم إنني علمت عن الوضع بخصوص هذه المسألة، ولقد أثرت الموضوع على هذه الطاولة أكثر من مرة، بعد أن قرأت الرسالة التي وصلتني لم أتمكن من النوم طوال الليل، شعرت بأن شيئاً يحدث ويؤثر على روحي، على روح منزلي، على أرواحنا جميعاً نحن الذين هنا، لم أتمكن من تصور من أين جئنا وإلى أين نحن ذاهبون، أعلم أن هذا ليس من باب المصادفة وإنما هو شيء يحدد معايير الحياة في الأمة، وأعلم أنه يمكن أن تكون لذلك عواقب في كل جانب من جوانب حياتنا، وذلك أن العدوان يولد العدوان، وتصبح هذه المسألة طبيعة ثانية للناس”.
وقال وزير الشرطة بيشور شالوم شتريت (السفرديم والمجتمعات الشرقية): “منذ الأيام الأولى لإدارة الجمهور {الكيان التشريعي المؤقت ما قبل أيار/ مايو 1948}، وطالبت بمقاربة صارمة بشأن هذه المسألة ولكنكم لم تستمعوا إلي، أنتم هائجون بسبب أفعالهم الجسيمة، لقد تقدمت بالعديد من المقترحات بشأن هذا الموضوع، وحتى هذا اليوم لم يقبل أي منها”.
وقال وزير النقل دافيد ريميز (ماباي): “لقد انزلقنا نحو منحدر مريع؛ صحيح أنه ليس الجيش بأسره، ولكن إذا وجدت أعمال كهذه ويتكرر حدوثها في الكثير من الأماكن، فهي بلا ريب مريعة لدرجة تبعث على اليأس”.
بعد النقاش، أعلن بن غوريون بشكل حاد: “طالما أن اللجنة لم تنجز المهمة التي أوكلت إليها، فإنني أعلن إلغاءها”، فرد غروينباوم قائلاً: “إننا بذلك ندفن المسألة”، أما الوزير شابيرا، الذي كان هو من دعا إلى تشكيل اللجنة في المقام الأول، فعلق على ذلك بالقول إنه شعر بأن الأرض تتحرك تحت قدميه.
في الحقيقة، سرعان ما أدرك الوزراء أن رئيس الوزراء لم يكن مهتماً بإجراء تحقيق كامل في جرائم الحرب، فقد رفض منح اللجنة الوزارية الثلاثية صلاحية استدعاء الشهود، ثم عزا فشلها إلى كسل أعضائها، وفي الوقت الذي طالب بعض الوزراء تأسيس لجنة يكون لها أسنان وألحوا على ضرورة تقديم المسؤولين عن تلك الأعمال إلى العدالة كان بن غوريون يسحب بالاتجاه المعاكس، وفي النهاية توصل الاجتماع إلى القرار التالي: “توكل الحكومة لرئيس الوزراء المسؤولية عن التحقيق في جميع المزاعم التي أثيرت بشأن سلوك الجيش تجاه العرب في الجليل وفي الجنوب”.
بعد يومين من اللقاء، وتحديداً في التاسع عشر من نوفمبر من عام 1948، كلف بن غوريون النائب العام ياكوف شمشون شابيرا بالتحقيق في الأحداث، وأشار رئيس الوزراء في كتاب التكليف بأن النائب العام “مطلوب منه بموجب هذا التكليف القيام بالبحث والتحقيق فيما إذا كان ضرر قد ألحقه الجنود والجيش بحياة السكان العرب في الجليل وفي الجنوب، مما لم يكن منسجماً مع القواعد المقبولة للحرب”.
بعد أسبوعين اثنين تقدم النائب العام بتقريره لرئيس الوزراء، وفي اجتماع الحكومة المنعقد في الخامس من ديسمبر قرأ بن غوريون النقاط الرئيسية، إلا أن هذا القسم من محضر الاجتماع مازال مطموساً، في ثمانينيات القرن الماضي قدم المؤرخ موريس التماساً لدى محكمة العدل العليا طالباً تزويده بالتقرير، إلا أن الالتماس قوبل بالرفض. ولقد عمل معهد أكيفوت منذ سنين من أجل رفع صفة السرية عن التقرير.
ورد ذكر التقرير مرات قليلة جداً في الأدبيات الأكاديمية – بل كان ذلك نادراً لدرجة أن البعض ذهب إلى حد التشكيك في وجوده أصلاً، وكتب المؤرخ يواف غيلبر، مؤلف واحد من أفضل الكتب حول حرب الاستقلال (1948)، عنوان النسخة العبرية منه “الاستقلال مقابل النكبة: الحرب العربية الإسرائيلية في 1948″، إنه لم يجد “تقرير شابيرا حول نتائج التحقيق أو أي إشارة إليه، أو أي دليل آخر يفيد بأن تحقيقاً تم إجراؤه في موضوع التصرفات الشاذة التي حدثت في الجليل.” إلا أن التقرير موجود بالفعل، ويستدل من المحاضر التي باتت متوفرة الآن على أن وزراء الحكومة لم يكونوا مسرورين على الإطلاق بمحتواه أو بتوصياته.
بعد قراءة النقاط الأساسية التي وردت في التقرير على مسامع وزراء الحكومة، قال بن غوريون: “لا أقبل بكل ما كتبه شابيرا، ولكني أعتقد أنه أنجز شيئاً مهماً وقال أشياء لم يكن الآخرون ليجرؤوا على قولها.” ثم اغتنم الفرصة لينتقد زملاءه أعضاء الحكومة قائلاً: “بالطبع، من السهل أن تجلس هنا حول هذه المائدة وتوجه اللوم إلى عدد قليل من الناس، إلى هؤلاء الذين قاتلوا”.
قال حاييم موشيه شابيرا: “بالفعل، لقد قدم النائب العام تقريراً بناء على ما قيل له، ولكن هذه ليست مهمته هو. في رأيي، الشيء الوحيد الذي مازال من الممكن فعله هو اختيار لجنة عامة تنوب عن الحكومة لتقوم بالتحقيق في المسألة وتغوص في التفاصيل. ولكن إذا ما تم التستر على هذه الأفعال، فإن الحكومة بأسرها ملامة إذا لم تجلب الجناة ليمثلوا أمام العدالة”.
قال راميز: “تلك الأعمال تخرجنا من فئة اليهود ومن فئة البشر قاطبة. بالضبط حول هذه المسائل الخطيرة مازلنا نلتزم الصمت حتى اليوم، يجب أن نجد سبيلاً لوضع حد لهذه الأعمال، ولكن لا ينبغي أن نسكت ضميرنا من خلال تركيز كل لومنا على كاهل أولاد تم جرهم على خطى أعمال ارتكبت من قبل”.
قانون الصمت
طوال اجتماعات مجلس الوزراء ورد مراراً القول بأنه يوجد قانون صمت بين الجنود تجاه جرائم الحرب، وعن ذلك قال الوزير شابيرا: “الحقيقة هي أن الجنود يخشون الإدلاء بشهاداتهم، سألت أحد الجنود عما إذا كان على استعداد للمثول أمام اللجنة، فطلب مني ألا أذكر اسمه، وأن أنسى أنه تحدث معي، وأن اعتبره شخصاً لا يعرف شيئا”.
كما تحدث بن غوريون عن صعوبة كسر دائرة الصمت قائلاً: “فيما يتعلق بالجليل، تم نشر القليل من الأمور، وليس كل ما يشاع موافق للحقيقة، العديد من الأمور تأكدت بالفعل، أما ما حدث في الدوايمة فلا يمكن تأكيده، هناك تستر، ومسألة التستر غاية في الخطورة، لقد كلفت شخصاً للقيام بالاستيضاح بشأن مسألة بعينها، فنظمت عملية ضده لمنعه من القيام بالاستيضاح، وتعرض لضغط شديد.
وأكد بن غوريون بأنه كان من المستحيل التأكد من الحقيقة، لا في الشمال ولا في الجنوب، وأضاف أنه في النقب “ارتكبت أعمال لم تكن أقل صدماً من تلك التي ارتكبت في الجليل”.
ساعد قانون الصمت أولئك الذين رغبوا في كنس الجرائم وإخفائها تحت البساط تجنباً للتحقيقات وللإدانات، وبالفعل كان شموئيل لاهيس، قائد الوحدة التي ارتكبت مجزرة الحولة، من بين القلة الذين اتهموا بارتكاب جرائم قتل أثناء حرب الاستقلال، ولا حتى مذبحة الدوايمة، التي تم التحقيق فيها داخلياً من قبل الجيش الإسرائيلي، نجم عنها أي إدانات.
يكشف عن مدى كثافة التستر داخل الجيش كتاب من تأليف يوسف شاي_إل، وكان جندياً يخدم في فرقة لاهيس وشاهداً في محاكمة قائده السابق في مذكراته غير المنشورة من عام 2005 بعنوان “أول ثمانين سنة من حياتي”، يقول شاي_إل: “بعد أن نطقت المحكمة بالحكم، مررت بأوقات عصيبة لفترة من الوقت، كان الناس يمسكون بي في المقاهي ومختلف الأماكن الأخرى في المدينة وينهالون علي ضرباً، فصرت أتعمد الخروج وفي جيبي مسدس، وكنت قد وجدت المسدس في منزل مهجور في عكا قبل وقت طويل من ذلك، كان الجميع يعرفون أنني قناص، وبذلك نعمت بالهدوء لبعض الوقت، ثم أخبرت الشرطة والدي بوجود خطة لاختطافي من البيت فاختبأت في منزل أحد الأصدقاء”.
وحتى أولئك الذين لم يستفيدوا من الصمت والتستر وحوكموا على جرائم ارتكبوها أثناء الحرب، ما لبثوا أن أخلي سبيلهم، وصدر في فبراير 1949 عفو عام بأثر رجعي على أي جرائم ارتكبت أثناء الحرب، ولا يبدو أن الجمهور بشكل عام كان يزعجه أي من ذلك، وقعت الأحداث المذكورة آنفاً خلال الفترة التي كان يتم فيها تأسيس النظام القضائي العسكري، ولعل ذلك يفسر لماذا أوجد الجيش في داخله ثقافة تنظيمية تتساهل مع قتل الفلسطينيين على يد الجنود أثناء العمليات. كان الفيلسوف مارتن بوبر قد أطلق على العقلية التي هيمنت على المجتمع اليهودي في ذلك الوقت مصطلح “ذهان الحرب”.
بعد نصف عام من ذلك، مثل أول رئيس للكنيست، جوزيف سبرنزاك، أمام لجنة الشؤون الخارجية والدفاع في البرلمان، وورد في اللقاء ذكر تقريرين نشرا في الصحافة في ذلك اليوم، وكلاهما يختصران الموقف من جرائم القتل التي ترتكب أثناء الحرب، وأشار أحد التقريرين إلى ضابط أصدر أثناء القتال أمراً بقتل أربعة من الأفراد الجرحى، بينما كان التقرير الثاني حول شخص قام ببيع معدات مسروقة من الجيش؛ حكم على الأول بالسجن ستة أشهر بينما حكم على الآخر بالسجن 3 سنين، وعلى كل حال، لم يساور سبرنزاك أي شك، بل كانت الرؤية لديه واضحة، حين قال مخاطباً اللجنة: “نحن أبعد ما نكون عن الإنسانوية، وما نحن إلا كغيرنا من الأمم”.
عربي 21