أوضح الكاتب البريطاني، ديفيد هيرست، أن الغرب ارتكب خطأ فادحا في تقييمه للانتخابات التركية، وإن المفكرين الليبراليين الغربيين أخفقوا في إدراك قوة الديمقراطية التركية لأنها لا تحقق لهم ما يرغبونه من نتائج.
وأشار الكاتب في مقال بموقع “ميدل إيست آي” إلى أنه لا مجال للمقارنة بين ثقة الأتراك بنظامهم وبين حال الناخبين في البلدان التي تحكمها أنظمة استبدادية، ففي هذه الأخيرة يعبر الناس عن عدم ثقتهم بحكامهم من خلال مقاطعة الانتخابات، وهذا ما حصل في مصر في 2018، حيث حصل عبد الفتاح السيسي على 97 بالمائة من الأصوات في انتخابات لم تتعد نسبة المشاركة فيها الـ41 بالمائة، على الرغم من كل ما بذله الجيش المصري من جهود لحمل كثير من المصريين على التوجه إلى دوائر الاقتراع.
وقال هيرست في مقاله إن المفكرين الليبراليين في الغرب لا يعترفون بمتانة الديمقراطية في تركيا لأنها تفضي إلى نتائج غير مرغوب فيها، بينما يمارسون في نفس الوقت غض الطرف عن الانتخابات المزيفة التي تنظم في بلدان مثل مصر وتونس، والتي يقاطعها الناخبون. ولكن هذا واحد فقط من الأسباب التي تجعلهم يخطئون المرة تلو الأخرى في فهم الشرق الأوسط.
وتاليا نص مقال ديفيد هيريست، ترجمه موقع “عربي21”:
كان أداء الرئيس رجب طيب أردوغان في الجولة الأولى من انتخابات الرئاسية التركية صادماً جداً للمعارضة لدرجة أنها احتاجت إلى أربعة أيام لتتعافى من الصدمة، وبلغت الفوضى بهم في فترة ما بين الجولتين أن اضطر مرشحهم الرئاسي لإصدار مقطع فيديو يثبت من خلاله أنه ما زال موجوداً.
صاح وهو يضرب الطاولة بكف يده: “نحن هنا، فلنقاتل حتى النهاية”. وعندما استأنف حملته، خرج على الناس في صورة مرشح مختلف تماماً.
ولت إجابة تركيا لغاندي، الذي صور رسائل الحملة من داخل مطبخه، وولى المفاوض الرحب الباحث عن الإجماع، والذي تعهد بقيادة تركيا نحو عهد ما بعد السلطوية، وخرجت من النافذة كل صور القلوب.
ويحل محله قومي رخيص يحاول التسلق نحو السلطة على ظهور أكثر المستضعفين في البلد:
اللاجئون السوريون في تركيا الذين يصل تعدادهم إلى 3.6 ملايين إنسان. وليس هم فقط، بل وكذلك “10 ملايين لاجئ آخرين” سوف يجلبهم أردوغان إلى البلد لو أعيد انتخابه.
في ما يمكن أن يعتبر حالة صدق غالية، قال مسؤول في المعارضة في تصريح لموقع ميدل إيست آي: “إنه خيار بسيط بين كليتشدار أوغلو وأردوغان، والموضوع الأساسي هو الخوف، سوف نذكر الجميع بما ستكون عليه السنوات الخمس القادمة فيما لو أعيد انتخابه”.
وبمجرد أن صرح بذلك، ارتفعت ملصقات الحملة على اللوحات الإعلانية في الشوارع وقد كتب عليها “السوريون سيذهبون! قرروا!”.
دعونا نكون واضحين، فقضية السوريين في تركيا ليست بالأمر الهين. تستضيف تركيا أكبر عدد من اللاجئين في العالم، من ضمنهم 3.6 ملايين سوري وما يقرب من 320 ألف شخص من جنسيات أخرى.
في الوقت الذي تجتاح فيه البلاد مشاعر ضخمة معادية للسوريين، وبعد المعاناة الناجمة عن الزلزال الهائل الذي دمر جنوب تركيا، فإن أولى مهمات أي رئيس قادم – ناهيك عمن يتباهى بالمؤهلات الليبرالية – هي تخفيف حدة اللغة لا مفاقمتها.
حملة الخوف
بنهاية العام الماضي عاد ما يقرب من 530 ألف سوري إلى بلدهم من تركيا– ولكن، وكما يفيد تقرير لميدل إيست آي من إدلب، فإنه لا يوجد مكان يعودون إليه، والرئيس بشار الأسد لا يفرش لهم السجاد الأحمر.
من إدلب، يبدو خطاب كليتشدار أوغلو المعادي للسوريين أشد سوءاً. فأي سحب للقوات التركية أو تبدل في موقف أنقرة قد يفضي إلى تدافع حشود اللاجئين نحو الحدود، كما حدث من قبل في تلك المنطقة شمال العراق في عهد صدام حسين.
من شأن موقف الرئيس الجديد الموالي للغرب أن يجعل المحادثات مع الروس والإيرانيين ومع الأسد أشد تعقيداً مما هي عليه الآن. ثم إن توازن القوات في شمال سوريا أشبه بحقل الألغام الذي قد ينفجر تارة أخرى وتكون لانفجاره تداعيات على المستوى الدولي، إنّ آخر من يمكن أن تتمناه رئيساً في مثل هذه الظروف هو شخص قليل المعرفة كثير الكلام شعبوي السلوك.
أردوغان نفسه وعد بإعادة السوريين إلى بلادهم، ولكنه كما هو ملاحظ لم يحدد فترة زمنية لذلك. وكان قد قال: “الحقيقة التي لا تخفى على أحد هي أن اللاجئين وطالبي اللجوء، وغيرهم، فإننا نقوم الآن بإعداد مساكن لهم، وقد بدأنا ببناء منازل جاهزة في شمال سوريا، ولكن لدينا الآن خطة لإعادة مليون لاجئ إلى الهدف، بالطبع، هذا الأمر سوف يحتاج إلى وقت”.
بمن أثق حول هذه القضية؟ رجل يستخدم الخوف كسلاح في حملته الانتخابية، أم رجل يقول إن إعادة الناس قسراً سلوك غير إسلامي؟ الجواب هو أنني أثق بالإسلامي.
وحملة الخوف التي يشنها كليتشدار أوغلو ليست مجرد كلام. فتحميل الضحايا المسؤولية عن الكارثة التي أوجدتهم تبدو سمة من سمات المنطق القومي.
مؤخراً، قرر مجلس مدينة تكرداغ الذي يهيمن عليه حزب الشعب الجمهوري طرد ضحايا الزلزال من الفنادق في كومباغ. كان هؤلاء أتراكاً نجو من بعض أسوأ المناطق المتضررة في كهرمان مرعش وأنطاكيا، رفعت يافطات تأمرهم بالمغادرة في يوم الأحد كحد أقصى، ولكن إزاء موجة السخط التي سرت في أوساط الضحايا فقد تم تأجيل الإخلاء إلى الأول من يونيو. حمل المجلس البلدي المسؤولية للحكومة، قائلين إن المال المخصص ضمن الميزانية الطارئة للزلزال قد نفد.
إلا أنه يحتمل أن يكون ثمة محفز آخر على اتخاذ قرار الإخلاء، ألا وهو حقيقة أن المنطقة صوتت بأغلبية ساحقة في الانتخابات لصالح حزب العدالة والتنمية الذي يقوده أردوغان.
مثل هذه القرارات تكذب مزاعم كليتشدار أوغلو بأنه منفتح على الجميع، ولكنه حاول على الأقل التستر من ذلك في الجولة الأولى، أما الحملة التي يقودها الآن فلا تبذل أدنى جهد لإخفاء هذا القبح القومي.
إلا أن قرار كليتشدار أوغلو تحويل ترشحه كرئيس لائتلاف قوس قزح إلى الحزب الكريه لن يكون بلا تداعيات بالنسبة للمعارضة ذاتها.
أولاً، لم يعد بإمكان كليتشدار أوغلو أن يصف نفسه بالليبرالي الذي يحمل أجندة ديمقراطية غايتها إعادة السلطة إلى البرلمان وحقوق الإنسان إلى البلد. فحملته لم تعد قائمة على أساس من حقوق الإنسان، بل على أساس من البحث عن أضعف وأفقر مكونات المجتمع التركي وتوجيه اللوم لهم.
ثانياً، إن تكثيف العنصر القومي التركي في حملته، بينما يحافظ في نفس الوقت على تحالفه مع حزب الشعوب الديمقراطي، ومحاولة حصد المزيد من الأصوات الكردية إنما هو أمر صعب المنال، وما ينضوي عليه من تناقض لن يغيب عن إدراك معظم الكرد.
ثالثاً، إن ضربه للطاولة بقبضة يده غير مقنع، فذلك ليس التصرف المعتاد من موظف دولة لم يغب عن عين الجمهور لما لا يقل عن عقد من الزمن. لا أحد في تركيا يصدقه عندما يتظاهر بأنه رجل شديد المراس.
أين هو الخلل؟ لماذا حصل هذا الخطأ في تقدير مدى تمسك الناخبين بأردوغان؟ لماذا أخطأت استطلاعات الرأي في تقدير الأمور؟
لماذا خلص فريق مرموق من علماء السياسة والعاملين في مؤسسات استطلاع الرأي، فقط قبل شهرين اثنين، إلى أن 51.5 من الناخبين سيصوتون ضد أردوغان وأن 37.6 سوف يصوتون لصالحه؟ حينها قال مستطلعو الرأي: “يكاد يكون من المستحيل أن يفوز أردوغان في الجولة الأولى من الانتخابات”.
لقد صدق كليتشدار أوغلو مثل هذه الأحكام، وكذلك صدقتها معظم وسائل الإعلام الغربية. فلماذا كانوا مخطئين إلى هذا الحد؟
ساهمت في ذلك مجموعة من العوامل. بإمكانك أن تصف عملية الاقتراع كما يحلو لك – ويبدو أن الإجماع الغربي استقر على أنها حرة ولكن غير نزيهة. ولكن الحقيقة التي لا مناص منها هي أن الأغلبية الساحقة من الأتراك أنفسهم يثقون بها.
من حيث نسبة المشاركة في الاقتراع، تعتبر تركيا ثاني أعلى بلد على مستوى العالم، ولم تكن الجولة الأولى هذا الشهر استثناء على ذلك، حيث أدلى بأصواتهم ما يقرب من 90 بالمائة ممن يحق لهم الاقتراع. قارن ذلك بالانتخابات المهمة التي تجرى في بلدان وصمت أردوغان بأنه طاغية، ولسوف تجد أن نسب المشاركة في بلدان مثل بريطانيا والولايات المتحدة تتقزم أمام نسب المشاركة في تركيا.
اعتبرت نسبة المشاركة في الجولة الثانية من انتخابات الرئاسة الفرنسية في العام الماضي، والتي كان التنافس فيها بين إمانويل ماكرون ومارين لوبان، وجودية بالنسبة لفرنسا، ومع ذلك كانت النسبة دون الـ72 بالمائة بقليل، وفاز ماكرون بما نسبته 58.54 بالمائة من الأصوات.
لا مجال للمقارنة بين ثقة الأتراك بنظامهم وبين حال الناخبين في البلدان التي تحكمها أنظمة استبدادية، ففي هذه الأخيرة يعبر الناس عن عدم ثقتهم بحكامهم من خلال مقاطعة الانتخابات، وهذا ما حصل في مصر في 2018، حيث حصل عبد الفتاح السيسي على 97 بالمائة من الأصوات في انتخابات لم تتعد نسبة المشاركة فيها الـ41 بالمائة – على الرغم من كل ما بذله الجيش المصري من جهود لحمل كثير من المصريين على التوجه إلى دوائر الاقتراع.
ونفس الشيء حصل في تونس، حيث لم يحظ الدكتاتور قيس سعيد إلا بنسبة تصل إلى 11 بالمائة في أي من جولتي انتخاب برلمانه الزائف.
بات من خصائص المفكرين الليبراليين في الغرب عدم الاعتراف بمتانة الديمقراطية في تركيا لأنها تفضي إلى نتائج غير مرغوب فيها، بينما يمارسون في نفس الوقت غض الطرف عن الانتخابات المزيفة التي تنظم في بلدان مثل مصر وتونس، والتي يقاطعها الناخبون. ولكن هذا واحد فقط من الأسباب التي تجعلهم يخطئون المرة تلو الأخرى في فهم الشرق الأوسط.
هناك أمثلة أخرى. عندما اندفعت الدبابات داخل برج البوسفور الشهير في إسطنبول يوم الخامس عشر من يوليو من عام 2016، بادر أردوغان –الذي كان يقضي إجازته في جنوب تركيا – بدعوة الجميع إلى الخروج إلى الشوارع. استجابوا له، وسرعان ما تشكلت مقاومة وطنية ضد الانقلاب.
لماذا؟ لأن الأتراك من كل الأحزاب لم يريدوا لأصواتهم، ولحريتهم في الاختيار، أن تصادر منهم. ولذلك حظيت حالة الطوارئ ضد أتباع غولن، الذين اتهموا بالمؤامرة، بدعم سياسي عريض.
إذا كان هناك من بنى تركيا لتكون البلد الذي نراه اليوم – ببنيتها التحتية الحديثة، ومستشفياتها وجامعاتها المزدهرة – فإنه أردوغان. ولذا فهو يسمو فوق المعارضة أولاً وقبل كل شيء لأنه يعتبر خيار الإنسان الوطني في تركيا.
ولو كان هناك من يتحمل المسؤولية عن فشل النظام الرئاسي الذي بناه –والإخفاقات في الاقتصاد الذي لا قبل له بإنشاء مؤسسات مستقلة، مثل بنك مركزي ذي مصداقية – فذلك أيضاً هو إرث أردوغان.
في كل سراء وضراء، هذا الرجل هو الذي صاغ الأمة التركية الحديثة. والمفارقة هي أن أردوغان، الذي يدخل الآن الجولة الثانية والأخيرة في هذه الانتخابات، لربما غدا الآن في وضع أقوى سياسياً مما كان عليه حينما خسر الانتخابات في أكبر مدن تركيا: إسطنبول وأنقرة.
بدأت تظهر علامات فشل الإستراتيجية التي يتبعها الحزب الكريه.
سعى كليتشدار أوغلو جاهداً لاستقطاب المرشح القومي المتشدد سنان أوغان، الذي جاء في المرتبة الثالثة، وفاجأ الجميع بحصوله في الجولة الأولى على ما نسبته 5.2 بالمائة من الأصوات.
ولكن سنان أوغان أعلن يوم الاثنين أنه يؤيد أردوغان، وذلك دون أن يضطر الرئيس إلى الهرولة نحوه، أو إلى التعهد بأي التزم تجاهه، وكان أوغان قد اقتنص الأصوات من أردوغان في عدد من الدوائر التي تدين له عادة بالولاء، وبذلك فإنه يتوقع أن تعود تلك الأصوات إلى أردوغان.
تمكن أردوغان وحلفاؤه من الفوز بالبرلمان، الأمر الذي عزز سلطته المعنوية إذ إنه يقبل على خوض الجولة الثانية من الانتخابات. الأتراك لا يحبون المعاشرة.
وبذلك يتمهد السبيل أمام أردوغان ليفوز بفترة رئاسية ثالثة، فيما لو تمكن المستشارون من التأثير على أردوغان حتى يتصرف بحكمة – فيما لو، كما قال أحد المستشارين، كان الشق اليسار في دماغه ينصت إلى الشق اليمين – فينبغي عليه أن يعين نواباً للرئيس في السياسة الخارجية وفي الاقتصاد يكونون على درجة عالية من القوة والمصداقية.
ولعل هذا يسهم إلى حد كبير في حل مشكلتين اثنتين: السياسة النقدية الكارثية التي تبتلع المليارات من العملات الصعبة واحتياطيات الذهب، وصوت في السياسة الخارجية على درجة عالية من المصداقية.
لن يكون ذلك كفيلاً بوضع حد لإصرار وسائل الإعلام الغربية على أن تركيا تتجه نحو الدكتاتورية، إلا أن مثل هذا الرأي يثبت بشكل متزايد أنه منسلخ عن الواقع.
في حقيقة الأمر، بات أردوغان هو أنجح زعيم في الشرق الأوسط والأكثر استقلالية – ولم يعد بإمكان الغرب حشد الجيوش وإرسال السفن الحربية لتغيير هذا الواقع.
إعلان الرئيس الأميركي بايدن عن دعمه للمعارضة التركية ليس فقط بلا معنى، بل لربما يفضي إلى نتائج معاكسة تماماً، وقد يأتي اليوم الذي يتعلم فيه رؤساء أميركا شيئاً من ذلك، لكن لا يبدو أن ذلك اليوم سيكون قريباً.