بعد مرور عامين على ثورة الشعب المصرى المجيدة ، ورغم وصول رئيس اسلامى يمثل أهم فصائل النضال ضد أنظمة يوليو المستبدة (الاخوان المسلمون) يبدو واضحاً للعيان أن الواقع الفعلى الذى يعيشه المصريون لم تبدو عليه بعد بعد آثار ايجابية واضحة للثورة التى قامت بالأساس لنيل حرية وكرامة المواطن المصرى المسحوقة تحت بيادات العسكر على مدى ستة عقود من الفساد والاستبداد.
فمن الواضح أن قوى الدولة العميقة بالتعاون مع معارضة المارينز الموالية للغرب يعملون بكل طاقتهم لاسقاط مؤسسة الرئاسة والحفاظ على هيكل النظام المستبد بعيداً عن التطهير ، فقد وصلت الثورة الى مقعد اتخاذ القرار لكنها لما تصل بعد إلى مفاصل إدارة الدولة المصرية التى ما زالت فى معظمها فى ايدى قوى الثورة المضادة التى تعمل على افشال اى توجه للاصلاح والنمو القابل للانعكاس على حياة المصريين طبقاً لقول الشاعر ( إذا مِتّ ظَمْآناً فَلا نَزَل القَطْرُ).
وتتحكم تلك القوى الفلولية فى معظم الوزارات والهيئات التنفيذية لكن من يظهر منها بفجاجة مؤثراً فاعلاً بالسلب فى مسار مصر الجديدة هما هيئتين كبيرتين عصيتين على التطهير ومناهضتين للاصلاح أولهما هيئة الشرطة (وزارة الداخلية) التى تمثل مركز ارباك الدولة و محور قيادة الثورة المضادة ، و ثانيهما السلطة القضائية المسيسة التى تغلغل فيها الفساد و أصبحت كعادة كل الأنظمة الاستبدادية المنهارة تُستخدم كأداة لإفشال مسار الثورة وتعطيل مسيرة الديمقراطية.
من الواضح أن إصلاح منظومة الداخلية يمثل معضلة الثورة المصرية الكبرى ،وقد تجلت فى مواقف وشواهد عديدة منها:
1- أن جهاز الأمن الوطنى (أمن الدولة البائد) ما زالت معظم قياداته فى أماكنها رغم كل ما ارتكبته من تجاوزات بل وجرائم فى حق المواطنين ، والأخطر أن المنهج لم يتغير كثيراً فضلاً عن عقليتهم وعقيدتهم الأمنية القائمة على القمع والبطش ومراقبة المواطنين والتجسس عليهم ، ففى ظل القبض السريع على أى ناشط الاسلامى بنفس الاسلوب القديم (جمال صابر مثالاً) يتم التغافل عن مجموعات البلاك بلوك الارهابية وعن ميليشيات البلطجية المأجورة من رجال اعمال الفلول والتى تحاول جبهة الانقاذ تغطية سوءتها سياسياً مما يدعونا للتساؤل لمن يعمل رجال الأمن الوطنى هل يعملون لحماية أمن الشعب فى ظل الشرعية الدستورية أم يشكلون محورا للثورة المضادة التى تبتغى اعادة تشكيل النظام البائد ؟
2-أن طبيعة تكوين الشرطة المصرية تحول تدريجياً منذ يوليو52 من هيئة مدنية تطبق القانون إلى هيئة عسكرية تخدم النظام ولا تبالى بالشعب وتستهدف رضا النظام المستبد لا مصلحة المواطن العادى ، وترتب على ذلك أن أصبح منصب وزير الداخلية حكراً على الشرطة وتحديداً قيادات أمن الدولة بعد أن كان كبقية دول العالم منصب سياسى يتولاه وزير مدنى كفء ( نلاحظ أن الثورة التونسية عينت قاضياً وزيراً للداخلية ) ، فصارت الشرطة بمثابة جيش داخلى لحماية النظام ، وبالتالى فان ثقافة خدمة الشعب والولاء للشرعية الديمقراطية الدستورية شبه منعدمة لدى معظم أفرادها ، كما أن معظم القيادات تعد موالية للنظام البائد و لثقافة القمع والاستبداد والاستهانة بخصوصية وحرية وممتلكات المصريين.
3-ان أصل الداء لدى لضباط الداخلية يكمن فى الاستعلاء على المواطن بل واحتقاره وهى ثقافة يتم غرسها فى اكاديمية الشرطة ولا ننسى هنا الفيديو الشهير لمدير أمن البحيرة الأسبق (مجدى أبوقمر) بعيد الثورة فى فبراير 2011 الذى يسب فيه الشعب المصرى ويتوعده بالاعتقال وقطع اليد ، كما أن دخول الطلاب الى كلية الشرطة طوال العقود الثلاث الماضية كان مبنياً بالاساس على الواسطة والمحسوبية والتحاقهم بها ابتغاءاً لللجاه والسلطة و ربما الثروة كذلك ، وهى عوامل توضح لنا خلفية وعقلية معظم ضباط الشرطة القائمين على الأمن فى ربوع البلاد.
4-إن نجاح الثورة وسقوط مبارك اعتبره معظم ضباط الشرطة هزيمة شخصية لهم وهذا بخلاف واقع الأمر فلم تكن الثورة ضد الشرطة كأفراد وانما ضد النظام وسياسته الأمنية القمعية الباطشة.
5-إن كراهية الاسلاميين وتصنيفهم كاعداء للوطن تعد ثابتاً مشتركاً لدى ضباط الداخلية وهى عقيدة تتم زراعتها فى عقولهم منذ لحظة التحاقهم بالشرطة ، كما ان العداء لجماعة الاخوان المسلمين تحديداً يعد ثابتاً لدى كثير منهم لكونها المعارض الأكبر لأنظمة يوليو البائدة ، وبالتالى فان وصول الرئيس مرسى الى سدة الحكم مثل لهم صدمة كبيرة وضعت معظمهم فى خانة الرغبة فى افشال المسار باللامبالاة وتعمد ترك البلطجة والجريمة منتشرة كى تؤثر على الرئيس بالسلب ( العبارة الشهيرة التى سمعها الكثيرون : نحن فى اجازة 4 سنوات حتى يرحل الرئيس) ، كما ظهر ذلك بجلاء فى احداث الاتحادية فى نوفمبر2012 ، فقد شهد شاهد من أهلها إذ صرح العميد طارق الجوهرى مسئول تأمين منزل الرئيس مرسى ( في لقاء على قناة الجزيرة مباشر مصر) قائلاً: إحدى تلك المؤامرات حدثت في شهر نوفمبر2012 وبالتحديد يوم الثلاثاء الدامي، حيث تم حصار قصر الاتحادية وبيت الرئيس في التجمع الخامس، وقد قرر بعض الضباط -وهم يسبون الرئيس مرسي أمامه- الانسحاب وترك البلطجية يقتحمون بيت الرئيس، وكان اللواء المسؤول عنهم صامتًا وتركهم ينفذون مخططهم ، وأضاف: أحد الضباط قال صدمني بقوله: إن مرسي بقي له نصف ساعة وسيكون في السجن ، كما أشار إلى أن بعض الضباط المكلفين بحراسة منزل الدكتور محمد مرسي كانوا يحرضون المتظاهرين على الاقتحام، ويطالبونهم بحشد اعداد كبيرة لقتل أو اعتقال الرئيس ، و أكد على أن مفتش المباحث كان يؤيد أفعالهم وتركهم يتأمروا على الرئيس، ((وشعرت وقتها أن هناك مؤامرة كاملة مدبرة على الدكتور مرسي من جهات متعددة)).
والخلاصة أن إعادة هيكلة الداخلية مع تغيير عقيدتها الأمنية تمثل بداية الطريق الأوحد نحو حل تلك المعضلة السياسية الأمنية المستعصية على التغيير طوال العامين الماضيين ، فلن يتحقق أمن الوطن إلا حين يتوطد أمان المجتمع و ينال المصرى حريته وكرامته التى ثار من أجلها.